الأحد، 25 أكتوبر 2009

السعودية و دارون و فرويد و الترف و الجرائد و التاريخ





تقتلني التعليقات التي أقرأها في مواقع الجرائد السعودية ! تقذفني قذفا إلى الهم العام !

السطحية اللذيذة ، التي يستلذ الجميع مضغها ، في عالم سريع ، لا ينتبه أحد لطعمها البلاستيكي ، الذي يشبه فطائر ماكدونالدز المجمدة ، التي تقوم من بياتها الجليدي لتستقر في دفء معدتك ، تسلم على لسانك بسرعة قد لا يلاحظها قبل أن تذهب إلى أمعائك لتنام من جديد .
كل شيء يتحرك بسرعة خاطفة ، خاطفة جدا . لا يبدو أن شيئا يستطيب الجلوس بما يكفي لتلاحظه أكثر ، لتشعر به أكثر .
خذ نفسا عميقا ، آغمض عينيك ، توقف عن القفز من "سطح" إلى "سطح" ودعني أتحدث إليك.
قبل عقود ، أو حتى قبل سنوات ، في صحراء تسكنها بيوت طينية متفرقة كأشجار الصبار ،كانت الأشياء بسيطة ، بسيطة جدا . بسيطة إلى حد يصعب أن نتخيله . أتخيل ثلاثينيا يدير المذياع ليسمع صوت شخص يحدثه عما يحدث في مكان آخر ، ويشعر بالزهو ، والاكتفاء ، والاطلاع الذي لا يعرف حدودا . يسمع خبرا عن حرب ما ، فيحتضن مركاه ، ويمد قدميه ، ويحدث أصحابه بما سمع ، يرتشفون القهوة ، ويمضغون التمر ، يتحدثون بلا انتهاء ، يغوصون إلى الحد الأدنى من العمق ، لا اقتناعا بأهمية التعمق ، والتحليل الجيد ، وإنما ثغور جائعة ، تتلقف قطعة صغيرة لا تسد شيئا من جوعهم ، فيمضغهونها ، ويمضغونها ، حتى يتيغر طعمها كل مرة .
وهكذا ، أتخيل أن كتابا ، مهتريء الأطراف ، يصبح صحراءا لا يمل اقتطاعها تنتقل من حافرٍ إلى حافر ، والصديق رغيف يومي، يتغير مذاقه كل يوم ، والسماء الممتدة ، مسرحا للتفكير والتأمل ، والتمحيص .

ستون سنة مرت ، تضخمت الأشياء بكل المعاني الممكنة للتضخم . تدفقت الأموال من كل النواحي ، أخبرني أبي أن قطعة أرض كان ينوي شرائها بأربعة آلاف ريال ، آصبحت بعد خمس سنوات تباع برقم يزهو بتسعة أصفار على يمينه . تضخمت البيوت ، أصبحت بأسوار عالية ، ثم أصبحت ترتفع فوق الأسوار بقطع حديدية لتبدو كقلاعٍ محصنة . الأطفال الذين كانوا يلعبون في الطرقة مع آخرين أصبحوا يلعبون داخل الأسوار . تضخمت الأجساد ، تضخمت الوصاية ، تضخمت الشوارع بالمطاعم ، وتضخمت البيوت بأجناس أخرى ، بشر يفترض بهم أنهم مثلنا ، اخترعنا لهم منزلة خاصة بهم ، نسخرهم لخدمتنا ، لم تعد امرأة تخرج لتقضي حاجة خارج البيت ، لم يعد أحدا يمشي من بيت إلى بيت ، الحياة اليومية تغيرت واعتراها ترف لذيذ ، يستلذ به أشخاص جربوا شظف العيش ، لم يعلموا يوما بأنهم يؤسسون لتغير اجتماعي جذري ، وبأنهم يلقون كل ما عاشوه من قبل في حاوية كبيرة اسمها التاريخ ، ليرمى من يفتش فيها بعد ذلك بالجنون والغرابة .
أتينا بأناس من دول أخرى بأجور رخيصة ليدرسونا ويربونا ، كنا طلابا وكنا في درجة أرفع منهم ، نظن بأننا أفضل ، فقط لأننا نملك أموالا أكثر ، لا أظن بأن دولا كثيرة عبر التاريخ مرت بتجربة مشابهه بل حتى نحن في زمان آخر كان المعلمون ، والمربون شيوخا أفاضل يملكون من الحكمة والاحترام ما لا يقارن باحترام مدرس مصري ، أو سوداني يمضغنا على كره ليقيم أوده . أية آثار يتركها مثل هذا على جيل كامل ، آثار الاتفاق الضمني بأن قدواتنا ومعلمونا ، مساكين . آثار استقطاب أناس من دول ٍ أخرى ليربون أولادنا على مضض . أصبح (العلم) مسكينا ، وأصبحت النقود تشتري الأسئلة والنجاح والحظوة . أصبح العمل أمرا كماليا تستطيع الالتفاف عليه . وتقضي حياتك الباقية تلتف على مخالفات المرور ، وقبول الجامعة ، والحصول على الوظيفة ، وعلى طوابير البنوك وحتى طوابير المطاعم . قفزنا على كل شيء بزنبركات من الأموال ، تجاوزنا كل شيء كل الخطوات التي جعلت أوروبا المظلمة تتبحر في العلم ، ثم تتبحر في البحث ، ثم تجني ثمار ذلك كله في عوائد ما تفتق عنه البحث ، امتلكنا ما يكفينا لنأتي بكل الثمار الطازجة ، كفلاح مع تقادم الزمن ينسى أن هناك شجرة للتفاح ، كل ما يعرفه عن التفاح أنه يستطيع بريالاته أن يحضر صندوقا من التفاح على ظهر هندي متقوس.

امتلكنا ما يكفي ، لنمارس الترف ، بكل أنواعه الرمزية والحقيقية ، ترف ديني ، يملكه علية القوم ونحسبهم والله حسيبهم الصفوة المختارة ، يرتدون عباءات مطرزة بخيوط صفراء ، يرتدون الأشمغة بدون عقال ، هكذا بدون أية سبب منطقي ، ترتدي شماغك دون عقال فتصبح في منزلة أخرى ، تحدث الناس عن الفضائل وتنهاهم عن كل ما تعتقد أنت أنه رذيلة ، هكذا فقط دون أن تستأذن أحدا ، تتحدث باسم الله مع الناس .
ترفٌ مالي يجعلك لا تتخيل كيف تكون حياة الآخرين بدونه ، تنسى كل شيء وتجعل من نفسك مسطرة تقيس الناس عليها. لا أنسى ذلك الصديق الذي كان يملك سيارة فارهة جدا ، ونحن على أعتاب المرحلة الثانوية ، كنت بجواره ، ومرت سيارة متهالكة ، يقودها مقيم عربي ، فأفصح الصديق عن قرفه من مثل هذه المناظر ، كان يتحدث جادا جدا عن وجوب أن تمنع الحكومة هذه السيارات ! حينما علقت بأنه قد لا يملك ما يشتري به غيرها ، أجاب بأنه متأكد تماما أنه يستطيع وأن عنده من الأموال ما الله به عليم ، وأنه يقدر ببساطة أن يشتري سيارة لائقة بدلا من الأموال التي يحولها إلى أهله في بلده !

هل صدمك ذلك المثال ؟ هل تعتقد بأن ذلك الصديق كان فجا وأحمقا ؟ فكر معي لحظة ، ماذا عن المليار مسلم في شتى أصقاع الأرض ؟ كيف نقيس حياتهم ؟ ومعاملاتهم ؟ وهيئاتهم الخارجية ؟ كيف ننظر إلى أم ٍ خمسينية جاءت تحمل هم أولادها فوق كتفها من قرية مسلمة صغيرة في اندونيسيا ، تمسح دموعها بأطراف الحجاب الذي جاءت تحمله من بلادها ، بكاءها مخادعة ، وتعبها كسل ، تتحرك في المنزل كشيء لا احترام له . كم نسبة السعوديين الذين سيحلفون أيمانا مغلظة آن مهما غلبتهم الحاجة لن تعمل أمهم أو بنتهم خادمة ، تلك الحاجة التي لم يعرفونها يوما . ترفنا أصبح مسطرتنا التي نحملها معنا إلى كل مكان ، ونقيس بها كل شيء .

يحق لنا ! ألسنا أفضل أمم الأرض ؟ لا نشك لحظة في ذلك ! كل ما تعلمناه في المدرسة يخبرنا بأننا الأفضل ، نحن الذين تمسكنا بديننا ، وبسنة نبينا ، ولم تقوض أركان إيماننا الخرافات والبدع ! حسنا ، أخرج من كل ماهو حولك ، ارتفع إلى السماء وانظر إلى كوكب الأرض من بعيد . هل يستقيم بحال أن أهل هذه البقعة الصغيرة هم أفضل أهل الأرض ؟؟ هذه البقعة التي لا تأمن على طفلك الصغير فيها من الخروج من باب المنزل دون حراسة ، تلك البقعة التي لا يغادر فيها طالب مقاعد الثانوية إلا وقد تعفنت أذناه من قذارة ما سمع ،تلك البقعة التي يستحيل فيها أن تمشي امرأة بالشارع وحدها آمنة مطمئنة ، تلك البقعة التي ينتشر فيها الفساد والرشوة والمفاضلة بغير التقوى والعنصرية ، والسرقات ، والكذب ، والنفاق . ككثير من البقع في أصقاع المعمورة .
ذلك الاعتقاد الراسخ ، الذي لا يقبل الزعزعة ، الذي يجعلك تقرأ الآن متضايقا ، فقط تخيل ، تخيل أنه خاطيء . تخيل أنه كذبة كبيرة بحجم لا يمكن أن تتخيله ، كذبة رضعتها في كل يوم منذ أن ولدت ، فقط من أجل التغيير ، وقليل من الترف الفكري الذي لم نجربه من قبل ، تخيل . امنح نفسك دقائقا لتبحر في عالم آخر ، أخرج خارج نفسك ، وخارج بلدك ، وتفرج عليها .

تخيل لو كنا ، أمة كأية أمة أخرى ، نعتز بما نعتقد ونظنه الصواب الأوحد بالضبط كما يعتقد الآخرون . تخيل أن الآخرون يظننونا على ظلال ، لكنهم أكثر أدبا منا ، فلا يقومون بسبنا من على منابرهم .
لا أفهم مالذي يجعل اعتقاداتنا الراسخة سبيلنا إلى كره الآخرين ومعاداتهم ، يبدو وكأن الأمر سلاحٌ ذو حديين . معتقد النصارى الذي أؤمن أنا وتؤمن أنت أنه محرف ، أتخيل أن به ثغرات كثيرة ومنفرات لا تجعل منه مصدرا للفخر والتأكد الحتمي من فداحة مسلك الأمم الأخرى . ديننا الجميل ، المكتمل ، المعجز ، الذي كان سيحلق بنا عاليا لو انشغلنا به عن غيره ، جعلنا نفكر بانتقاص للآخر لا تطيقه الثقافات الأخرى ، جعلنا نعتقد بأننا مستهدفين طوال الوقت ، انشغلنا بالدفاع عنه من السكون في كنفه ، بالضبط كمن يملك بيتا فارها ، ويقضي كل وقته في الشارع ليحرسه ويذب عنه ، ذلك البيت الكبير الذي يسكن به خلق لا يحصون ، يتفرغ الكثيرون ليحرسون أبوابه ، يرشقون المارين بالحجارة ، ثم يعودون إلى داخل البيت ليفزعوا سكانه ، ليقرعوهم على الدعة والسكينة ، ليخبروهم كيف يجدر بهم أن ينظفوا حجراتهم ، ثم فجأة ينسى الناس عن ماذا دافعوا ، ثم يبدأ البعض برمي حجارة دون سبب غير أن الجميع يرشقها ، يبدآ البعض بالدفاع عن الشارع ، ثم يدافع عن شجرة في الشارع لا أحد يعلم ما إذا كانت تخص البيت أم آنها تطفلت عليه .
بيتنا الجميل ، جعلنا نظن أن الآخرين يفنون حياتهم لينفذوا إليه ، نعاديهم ونكرههم ونتحدث عن عدم احتياجنا إليهم وعن وجوب مقاطعتهم . نتحدث بمايكروفونات يصنعونها ونقود سيارات يصنعونها ونكتب بأقلام يصنعونها ، ونلبس أحذية يصنعونها ، ونتوج على رؤوسنا أشمغة من صنعهم ! ثم نتحدث عن مقاطعتهم ! كم نشبه ذلك الطالب الغبي في آخر الصف الذي يكره كل المدرسين ، ويرى ان الرياضيات ترهات لا يحتاجها ، والأدب صعب ، والعلوم تعقيد . يقضي الحصة الأخيرة يتحدث عن أبيه الذي لايحترمه لأنه لا يستمع له جيدا ، يقول له صديقه إذن لماذا لا تستمع أنت الآن جيدا للمدرس ؟ يفتح عينيه على آخرها وكأن الصديق تفوه بأحمق كلامٍ يمكن أن يسمعه ، ثم ينعت الصديق بالغباء لأنه لا يفهمه. يتمتم بجمل سريعة متحدثا عن غباء الصديق وغباء المدرس ، وغباء أبيه ! يخرج بعد الحصة السابعة بسيارة اشتراها أبوه له وبذل من أجلها (شكرا ) عجوله منذ سنتين . تلك السيارة التي لو اشتراها المدرس ستأتي على (شقى عمره ) .
تخيل معي أن الكرة الأرضية رقعة كبيرة ممتدة ، وتخيل معي أن الدول مزارع . كل المزارع بها من يعمل ، ومن يقتات على جهد من يعملون ، ومن يسرق من الأشجار ومن يطرد بعيدا عنها . مزرعتنا ، صناديق من الفاكهة تخرجها شجرة سوداء عظيمة لا نعلم عنها الكثير ، هناك أشجار صغيرة متفرقة هنا وهناك ، وحينما قلت الفاكهة نسي الناس كيف يزرعون ، لم يتعلموا يوما كيف يزرعون ، لم يشاركهم أحد في صناديقهم ، وحينما يسرقون . يسرقون من الصناديق لا من الأشجار . هناك أيضا أيادٍ ناعمة ، لم يتعود أحد رؤية مثلها في المزارع المجاورة تمتلك الكثير من الفاكهة ،حيث أن مثل هذه الأيادي هناك ، معروقة وخشنة وقد عانت من حرث الأرض ماعانت .

جميل أن نملك فاكهتنا بأقصر الطرق . لكن المهم ، المهم جدا جدا ، أن نحاول ردم هذه الهوة التي قفزناها ، أن ننزع الزنبركات ونمشي على الأرض ، وإن لم نستطع نزعها ، فلا أقل من أن ننظر الى الأرض ، نفكر جيدا ، ندرك ما تجاوزناه وكيف يمكن أن نعوض ذلك . صنعنا جغرافية بقمم ناتئة بينها حفر هائلة ، نقفز بينها بما نملك ، المشكلة تخيل ما سيحصل بدون هذه الإمكانية للقفز ، كم سنسقط ؟ وكم سنتألم ؟ وكيف نعاود النهوض بأقدامنا العارية ؟قصتنا تشبه كثيرا قصة الأرنب والسلحفاة ، آه فقط لو فكر الأرنب كالسلحفاة ، تخيل فقط أين يمكن أن يصل !

ابتدأنا من الأعلى ، من السطح ، أصبح كل شيء على السطح ، يجتاحنا طوفان معلومات ، لا يمكن أن نتعامل معه دون أن نقفز من سطح إلى آخر ، أقل محاولة للنفاذ إلى العمق ولو ببضعة مليمترات توصف بأنها عميقة جدا . نكتفي من الأشياء بمظاهرها ، اللحية خلق كريم ،صورة مقطعية للدماغ ، مبهرة الدقة بحيث تخبرك عن تفكير الشخص المستقيم ، وسلامة طويته وطيب نيته ،وطول ثوبك أهم بمراحل من سعة عقلك ، والعباءة هيبة واحترام ، والغطاء للمرأة احتشام ، والنقاب درجة أقل ، والحجاب تفسخ ، ومسطرتنا هي ذاتها نقيس بها سيدات في أعمار أمهاتنا من دول أخرى نخاطبهن كمراهقات نزقات فقط لأنها زجت بنفسها في ذلك التصنيف الشكلي ونحن لا نريد أن نفكر لست ثوانٍ ونصف .
العالم كله يعاني من السطحية ، الوصفة السريعة لطبخ المتغيرات ، وكلما ازداد أناس في التعمق في شيء ، تبدو سطحيته أكثر فضحا ً . مشكلتنا أننا لا نعرف أنها سطحية ، نظن أننا لمسنا القاع وأدركنا كل شيء ، نكذب الذي يصور لنا شعبا مرجانية من عمق البحر لأننا ألقينا نظرة على السطح ونستطيع أن نحلف بأن لا وجود لشعب مرجانية هناك . نملك قائمة ممتازة ، ممتازة جدا ، لا ينفذ منها شيء ، للاتهامات المعلبة ، جاهزة تماما نتناولها من أقرب رف في خزانة عقولنا المتواضعة ، لا نكلف أنفسنا حتى إحضار شيء من مستودع الذاكرة ومخازن التاريخ . الذي يدعو للتفكيرمتفلسفٌ يقدم العقل على النقل ونحن قوم نقدم النقل على العقل وننسى كل الآيات التي تتحدث عن التفكر والتبصر والتعقل .والذي يتحث عن الدين بعقال ، علماني لا يفقه شيئا ، والذي يأتي على ذكر المرأة من بعيد ، متبع للشهوات داع للتحرر والسفور . والذي ينتقد شخصا عليه مظاهر الالتزام ، عميل ، يهاجم الدين برمته !
لو كان الرسول بيننا ، يتحدث مع جاره اليهودي ، أو كانت عائشة تتحدث مع الرجال بيننا ، أو امرأة سعفاء الخدين ترفع صوتها بين الرجال ، لا أدري ماكان سيفعل المتحمسون بهم ، أتحرق شوقا لمعرفة الأوصاف التي ستطلق عليهم !
إذن سطحيتنا ، مع كل هذا الكره العنيف ، لأي رأي أعمق ، وأي ملاحظة نقدية ، مصيبة لا تعدلها مصيبة !
نفسر كل ما يجري حولنا بأسوأ ما يمكن من الظن ، نهاجم الأشخاص ونترك الأفكار ، حينما يتحدث أحد عن آن تجلس المرأة في كرسي أمامه مقود لتحرك تلك العربة الحديدية من مكان إلى مكان ، نتحدث عن بناته وعن دياثته وفحشه ، وحينما يظهر وزير متواضع بما يكفي ليرتدي زي طباخ ويعمل نادلا في مطعم ، نتحث عن بيته الذي يجدر به أن يسعوده قبل أن يسعود الوظائف ، وحينما يحدثنا أحد عن شيء لا يروقنا ، قبل حتى أن نخرج مسطرتنا المعيبة لنقيس ماقال ، نرميه بأصله ، وبعرضه ، وبدينه .
نرفض التغيير بطريقة كهربائية منتفضة ، قبل أن نفكر قليلا بعد سنوات من القفز على السطح ونقبل . المذياع، السيارة ، التلفاز ، الصحون الفضائية التي كانت ترمى بالبنادق من بعضهم قبل أن يبدؤون بتركيبها بالمفكات في بيوت الآخرين ، الجوالات ، الجرائد ، الكتب . حتى فرع مطاعم ماكدونالدز الأول في الرياض ، وعلب الكوكا كولا اليهودية ، كل شيء ، كل شيء .
نجلد ذاتنا كمهووس بكره نفسه ، ومما يدعو للسخرية أنني هنا ، أجلد الذات منتقدا جلد الذات ، أنتقد النقد ، أدرك تماما غباء من يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، لكنني أرى أن الجلد لغرض الجلد مختلفٌ تماما عن التقريع لشيء يمكن تغييره . نقد الفكر يختلف عن نقد المسلك ، والتصرفات وعن نقد العموميات ، كتخاذلنا عن نصرة الإسلام ! حسنا قلي بربك ماذا أفعل للقضية الفلسطينية ! مدرسون لا أحصيهم ، ومقالات لا أعدها ، وبرامج لا أتابعها تقلدني كل يوم قلادة الشعور بالذنب لذنب لم أقترفه ، التجار الفلسطينيون الذين كانوا سواعد لياسر عرفات ، وهذا الأخير الذي مات عن ثروة هائلة ، هائلة جدا لا أعلم من أين جاءت ، توزعت وخزات ذنوبهم على الجميع ورقدوا هانئين ، الفلسطينيون يتقاتلون فيما بينهم ، ومما أصابني بالدهشة اللا معقولة ما قرآته يوما عن جنود من فصيلة فسطينية لجؤوا إلى إسرائيل احتماءا بها من الفصيلة الأخرى !! وفي ذات الوقت يملؤ الضجيج برامجنا عن تقاعس العرب ، وتخلي العرب ، وجبن العرب !
الأوصاف التي توزع بسخاء عن تخلفنا ، وغباءنا ، والغرب المقدس ، وشعورنا الفظيع بالنقص الذي نستعمل معه كل الحيل النفسية الممكنة التي تجعلنا متغطرسين وغير عابئين . حفرة نقصنا التي لم نفكر يوما بردمها ، رملة رملة ، كل ما نفكر به ، كيف نلتف على هذا النقص ، كما التففنا على كل شيء ، كما قفزنا حفرة العمل الدؤوب ، وحفرة التعليم ، وحفرة الوظيفة ، وحفر المخالفات ، وحفر الطوابير ، نمني أنفسنا بقفزة مفاجئة ، حرب ضرووس يعلي فيها الله كلمة الحق والذين آمنوا ونقلب كل شيء بسرعة وننتصر فجأة ! ننسى العمل ونحشد كل جهودنا في نشاطات ، عاطفية نفسية أدبية ، لتخفيف شعورنا بالذنب ، نقول أن الزمان أغبر ، ولا شيء يمكن عمله سوى الدعاء ، وبدل أن ندعي ليرفعنا الله ، ندعوا على الآخرين بأن يخسف الله بهم ، بأن يدمرهم ، فجأة ! حتى نصبح فوقهم دون أن نغير من مكاننا قيد شعرة ، نكتب عن تخلفنا وتخلف العرب جميعا، نقرعهم ، ونقرع أنفسنا حتى حين ، عل الله أن يخرج من ظهورهم صلاح الدين، بعد أن فقدنا الأمل في أنفسنا ، حيل ضعيفة مكشوفة وواضحة ، لا يتحرج أحد من استخدامها لأن الملايين حوله يستخدمونها ، بودي أن أعرف ماذا كان شعور الإمام الأول الذي خرج ليدعي على الناس بالتدمير والفناء ، أتخيل أن ذلك حصل في فترة مشحونة بالعواطف والشعور بالظلم ، استغرب القليلون ولكن عاطفتهم غلبت ، عملت الخطة بالضبط كما تخيل ،عاد إلى بيته مطمئنا فقد وكل الله بهمه والانتقام له . نسي أن الله عز وجل يقول ( وقل اعملوا) ، اعملوا . لا أدري لماذا لا يجلس في منزله ويطلب من الله الرزق ، لماذا لا يطلب من الله أن يلقي القرآن في صدره بدل التعب في الحفظ والمراجعة ، ربما كان السبب معرفته بالنتائج المباشرة والبسيطة للعمل الذي يأتي بالرزق ، والمراجعة التي يتطلبها الحفظ ، ومعرفته الأخرى ناقصة ، لكنه يستطيع ببساطة أن يعمم جهله على الناس . بالضبط مثلما حصل حينما خرج شيخ معرووف إلى باريس ، وامتدح ما رأى . رأيه بعد أن ذهب غير رأيه ما قبل ذلك ، لذلك ربما يتوجب علينا جميعا أن ننتظر أن يسافر أوصياءنا ، واحدا واحدا ، ويقرؤون كتبا ، حتى يصدرون مراسيم رضاهم عن ما لا نستطيع بعقولنا الضعيفة وديننا الرقيق أن ندركه .
حسنا ، لنفترض أن الله استجاب لدعائنا ، وخرج صلاح الدين ، و"كسر الدنيا" ، وانتصرنا على الجميع انتصارا ساحقا ماحقا ! لنفرض أنهم اختفوا من الأرض فجأة ، الجميع اختفى وبقينا نحن .
الوقت صباحا ، مساء الأمس دمر الله الكافرين جميعهم ، واختفي كل أهل البدع والظلال ، ولم يبق سوى أهل السنة والجماعة ؟كيف ستذهب إلى عملك ؟ بالسيارة ؟ والوقود الذي تستخدمه بها من يكرره ؟ من يصنع الأحهزة التي تستخرجه ؟ السيارة ذاتها ، من سيصنع مثلها بعد عشر سنوات ؟ من يحضر لها قطع الغيار ؟
ماذا يفعل آلاف المرضى في المستشفيات ؟من أين يحصلون على الدواء ؟ كيف تعمل أجهزة الأشعة ؟ وأجهزة الجراحة ؟ الأنابيب الداخلة والخارجة ؟ كيف تبني بيتا ؟كيف تستخدم الكهرباء ؟ من أين تآتي بالإضاءة ؟ كيف تحفظ أطعمتك دون ثلاجات ؟ كيف تطبخ ؟ كيف تصنع جهاز كمبيوتر ؟ كيف تسافر بالطائرة ؟
حسنا لنفترض أن الله مسحهم من الأرض وبقيت مصانعهم ودور أبحاثهم وكل ما صنعوا جاهزا لا ستخدامنا . من سيعمل بالمصنع ؟ من سيكمل البحث ؟ من سيخترع الدواء ؟ ويكمل المسيرة في خصائص الضوء ؟ من سيكمل تلك الزراعة الأساسية والمتعمقة التي لا يربطنا بها شيئا سوى ما نحصد من ثمارها . من فكر يوما في الخطوات التي مرت بها صناعة السيارة مثلا ؟ المحرك ؟ الناقل ؟ ضخ الوقود ؟ من الذي اكتشفت المحرك أولا ؟ ومن الذي كتشف الكهرباء أولا ؟ ومن الذي اكتشف الوقود أولا ؟ ملايين بل بلايين الأوراق كتبت ، ونوقشت ، وبلايين التجارب أجريت على مدى عقود . هل يعقل أن كل هذا لا شيء ؟ كيف يعقل أن نقفز كل هذا ؟
نظرية دارون ، كفر وسخافة ، يلغيها كلها شخص لا يعلم عنها شيئا بجرة قلم ، فرويد يهودي منحرف لا يتحدث إلا عن الجنس، يصلب على أعمدة كتاب لم يقرؤوا له حرفا واحدا ، الفلسفة ، كلام لا طائل منه ، يفضي إلى الشك ، ويخل بالعقيدة . كتب دارون لها ألف وجه غير وجه القرد الذي نعرفه ، وفرويد غير فكر البشرية جمعاء حينما اكتشف اللاوعي ، والفلسفة أساس العلم ، ولولا أن أفضت إلى المنهج التجريبي ، لما ابتلعت حتى تلك الحبة الصغيرة حينما تشعر بالصداع ، ناهيك عن جميع ما أتى به العلم في العصر الحديث.
الرغبات الصبيانية بالنصر المفاجيء ، مضحكة وتختلف مع نواميس الحياة ونواميس الدين ، وما قال الله عز وجل ، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا .
أنا لا أتحدث عن رأي ضد رأي ، إطلاقا ، أنا أتحدث عن طريقة تكوين الرأي ، الحجة خلفه ، احترام ال(بني آدم ) الذي يخبرك عن رأيه ، عن الثغرات المنطقية التي نقع بها زرافات ووحدانا ، عن التحرر من قضية أن العالم بأكمله مشغول بك ، ويريد القضاء على دينك وشرفك. أن تدافع عن رأيك منطقيا ، م ن ط ق ي ا ! أن تصادق العقل ، بدل أن تعاديه ، أن ترغب في الرفعة بدل أن تتمنى أن يهبط الآخرون . أن تفكر قليلا ، لست ثوانٍ ونصف !

الطالب الغبي في آخر الفصل ، أرهقني كثيرا ، أريد أن أستمع إلى المدرس ، أرجوك ، تقبل وجود عقل آخر - على أسوأ الفروض- كعقلك . المهم أنه عقل آخر .
يا صديقي الذي لم أنتقيه بمحض إرادتي ، أنا لم أطلب منك ( إضافة) شيء أنا أطلب منك فقط آن تخلصني من محاولاتك ل(إزالة) ما أفعل . أتفهم أن الآمور لا تعجبك وتستطيع أن تغادر . أرجوك دعني أستمع ، أنا متأكد تماما ، أنني لو انتظرت دورة حياتك الكاملة ستعرف في آخر المطاف أنك كنت على خطأ . المشكلة أننا في نفس العمر ، وأنا لا استطيع ان انتظر عمري كاملا . عجوزين، في فصل متهدم ، أنت تخبرني أنني كنت على حق وأنك نادم ، وأنا أخبرك -بتفهمي الذي عودتك عليه - بأنك ربما كنت على حق لأن الفصل تهدم !


متعب
اتاوا ٢٢ اكتوبر ٢٠٠٩