السبت، 24 يوليو 2010

السخافة المكتملة المرتبة ، والآسئلة الناقصة العشوائية

























فكر طويلا ،قبل أن يتنهد : آه كل هذه الأسئلة اللا مجابة
!
ربما كانت معضلته في توهم وجود إجابات لها ، فيتخيل أن المشكلة في أنه لم يعثر عليها بعد ، كيف يمكنه أن يكون بهذه السطحية ؟ أو ربما هو ليس كذلك ؟
ماذا عن السعداء في الأرض ؟ هل هم نتاج أسئلة عميقة أمكن لها أن يجدوا لها إجابات مرضية ؟ أم هم أناس لم يتساءلوا يوما عن شيء ، مضوا في طريقهم دون أن يحملوا الأمور أكثر مما تحتمل ، تجاهلوا كل هذه الأشياء التي يحاول هو أن يغرق داخلها .
هل يتعاملون مع تلك التساؤلات التي يحملها كطير ٍ يطير فوق تجمعات للمياه ، فيحط على طرف من أطرافها دون أن تبتل قدميه ، ولأنه علي الحافة ، لا يعلم شيئا عن العمق الذي يمكن أن تصل إليه المياه ، يصل إليها ويرحل ، وهو يعتقد أنها مستنقع صغير ، استطاع أن يتذوق مياهه ، ويمضي ليخبر الجميع بطعم تلك المياه ، وما يعلمه عنها ، وتجربته هناك . يصدقه الجميع.
يصدقونه لأن الغارقين داخل المياه ليسوا هناك ليفندوا مزاعمه ، ولو كان أحدهم في الجوار سيكون مشغولا بما يكفي لكي لا يتمكن من الحديث مع طير صغير لا يعلم شيئا .
فينتهي الحال بذلك الطير ، وقد رضي عن نفسه ، يتحرك من بقعة إلى أخرى ، يطوي الأفق سريعا ، بلا تعقيدات ، ولا أسئله
كيف يمكن بحال من الأحوال أن يقارن ذلك الطير ، بنفسه ، هو الذي كان حينما يريد آن يعابث أمه التي تشعر بالدوار حينما يتحرك أحد أمامها كثيرا ،يمشي على الأطراف الأربعة للسجادة في خطوط مستقيمة بدلا من المشي العشوائي ، فقط كي تصبح سخافته مكتملة ، ومرتبة . كيف يتعامل مع شيء أهم من السخافة بقليل ، على الأقل بالنسبة له : حياته
سؤاله المهم ، لا ، ربما أهم أسئلته على الإطلاق : كيف يتحرك في مثل ذلك المكان ؟
هل يلمس المياه سريعا ويرحل ؟ أم يحاول أن يلمس قاع كل بئر قبل أن يمضي في طريقه ؟ هل يحاول أن يفعل الأمرين بأسرع ما يمكنه ؟ أم أنه يحتاج للتركيز على بئر بعينه ، ويغوص فيه إلى الحد الأقصى الممكن ؟
ربما كل ما في الأمر أنه يتوجب عليه أن يتجاهل كل تلك المياه على الأرض وينظر للسماء حيث يمكن أن تكون قد تكونت ، أو ربما يبحث عن نهر قريب ؟ أو أن الإجابة تكمن في اختبار التربة بجانب المياه ، ليعرف ما الذي يصنع مستنقعا ، ومالذي يصنع بئرا ، وما الذي يجعل التربة لا تحمل شيء ؟ هل التربة تحت الماء أفضل أم التربة العارية ، ربما ستفكر الطيور ، وكل تلك الكائنات على حواف المياه بأن التربة تحت الماء أفضل ، لكن التربة العارية ربما كانت كريمة بما يكفي لأن تسمح للماء بالنفاذ ، لم تصد دونه أبوابا يتجمع على مداخلها . ربما حين يفك رموز ذلك يستطيع أن يصنع بركة صغيرة ،يكون أكثر تواضعا من أن يسميها بئرا ، ويرجو ألا يظنها أحد مستنقعا ، قبل أن يفعل ذلك ، لابد أن يتقن المشي على خيط دقيق، يوازنه جيدا بين أن يكون بخيلا بما يكفي لصد الماء وتجميعه ، وذكيا بما يكفي ليقنع الجميع بكرمه.
ربما كان أسهل الحلول أن يجلس على طرف تجمع ما ، ويراقب الطيور التي تحط هناك ، والتي تغرق قليلا ، والتي تغرق أكثر ، ويحتار لنفسه موضعا يتناسب مع" المعدل " ، ويجعل من التصرف الطبيعي ، مبدأً إحصائيا ، يسبح مع التيار ، ويستمتع بذلك الدفء الذي تمنحه الأكتاف المتزاحمة على المنتصف.
ربما كان الحل أن يمشي متنزها ، مستمتعا ، وكأن الماء لا يعنيه في شيء ، وكأنه لا يوجد هناك أي علاقة محتملة بينه وبن الماء ، ينظر أي التجمعات تحيط بها طيور كثيرة ، يتفحص ملامح الطيور في الأماكن المختلفة ، وأين هي التجمعات المزدحمة
يراقب الناس ، والطيور ، يثمن قفزة شجاعة هنا ، وغوصة عميقة هناك ، يبتسم بإعجاب ، ويسجل ملاحظات أخرى عن غباء بعض اللمسات الجبانة ، وتلك التي تقف على الحواف ، يفكر في الكيفية التي يفعلون كل ذلك بها ، ويفكر كيف يمكن أن يفعل أشياء مشابهة بطريقة مختلفة ، يرى عينات متعددة من الأشياء هنا وهناك ، ليكون فكرة أوضح عما يجدر به أن يفعله - يوما ما -
يجرب أن يغوص قليلا ، في بئر، لينسى أنه جربه بعد فترة من الزمن ، يفكر في أنه يجدر به أن يجد بعض الوقت ليعمل خريطة للتجمعات المختلفة ، وطريقة يوضح بها ما قام به حتى الآن ، وما يجب عليه أن يقوم به فيما بعد ، كيف يصبح أكثر فعالية
كاد أن ينسى ، هل يجب عليه أن يجد رفيق سفر ؟ على الأقل ، أحد ما ، ينتظره على الحواف حتى يعود ، فقد يعود مبتلا ، وقد يشعر بالبرد ،ربما يحتاج حبلا من وقت لآخر ، يفكر : يكفيه جمهور من شخص واحد ، لا يشرب من الأطراف، ولا يطير سريعا من مستنقع إلى آخر، كل الغواصين لهم قوارب تنتظرهم ، وقصص الغوص ستكون أدفأ كثيرا لو خبزها اللسان في وقتها ، والأيدي المنتصرة ، المتجهة الي السماء ، تستطيع استعمال كتفين في طريق عودتها، وحبات اللؤلؤ سيسرهاأن تنتظم في عقد لرقبة تثمنها .
يحمل أسئلته في قارورة صغيرة ، ليشرب منها في طريق العودة ، وتتسلق قربة ماء على ظهره، ويمضي.

أتاوا
يوليو - ٢٠١٠


السبت، 29 مايو 2010

لحاف أفريقي على طرف السرير

















أفريقي أسمر ، غائر العينين ، يتخصص في الإعلام ، يصلح لأن يعمل انقلابا على (موقابي) الذي عمر طويلا في زيمبابوي ، نحيل بما يكفي لأن يرفرف رداء المستشفى الأزرق حوله كشرشف تداعبه الريح على غصن شجرة ، جلس خائفا ، وتحدث خائفا قبل أن يبتسم قائلا : " ماذا تظنين ؟ " حينما سألته الطبيبة التي تقابله : هل تخشى أن تموت والدتك ؟
ابتسامة حملها كل ما يملك من السخرية ، ابتسم كثيرا للفروقات بين المجتمع الكندي الجديد الذي تعرف عليه قبل أسابيع ومجتمعه الأفريقي ، ابتسم حينما رأى عمود الحريق الأصفر على الرصيف الذي لم يره من قبل سوى في الأفلام ، استغرب حينما سألوه في الاختبار الذي أجراه بعد أسبوعين من قدومه عن فريق السيناتورز الشهير ، ولم يعرفه ، لم يعرف حتى ماذا يعنون برياضة الهوكي، تحرج من أصابعه التي تتحرك أصبعا أصبعا فوق لوحة المفاتيح حينما قارنها بأصابعهم التي تتقافز فوقها . ابتسم حينما حصل على بطاقة عبور الحافلة ، واستخدمها في قضاء اليوم كاملا من حافلة إلى حافلة دون أن يعرف إلى أين تتجه ، لاشيء يهم ما دام سيستخدم البطاقة للعودة من حيث أتى
ابتسم كثيرا ، قبل أن تكشر الحياة عن أنيابها ، غرق أخاه الصغير في زيمبابوي بعد أسبوعين من وصوله ، وبعدها بأيام ماتت ابنة أخيه بمرض داهمها ، وبعدها بأسابيع مات عمه ، وجاءت القشة الأخيرة حينما مات صديقه في حادث سيارة قبل أسبوع. تساءل عما يفعله هنا ؟ ولماذا أتى ؟ قالوا له أهله هناك بأن ينسى كل شيء ويركز على دراسته ، تلك التي دفعت كل قريته من ،أجلها الكثير ، كان يقرأ فلا يتذكر ، ويذهب إلي الجامعة محملا بحقائب من كل نوع ، يتحدث بلسانه الجديد الذي كان يدربه منذ سنوات طويلة لمثل هذا اليوم.
كان طالبا نجيبا ، عمل أبيه مديرا لمدرسة ، وحينما كان لا يخرج ليبيع الحلوى للأطفال في الشارع ، كان يذهب إلى المكتبة ، ويقرأ كل شيء ، أحس الجميع بنبوغه ، وقال أنهم عملوا كل شيء ليأتي إلى كندا ، على كتفيه حقائب ثقيلة من الآمال ، ألقى بها كل من يعرفه هناك شيئا ، حينما كان في بلده كان للحقيبة أيد ٍ وعجلات ، كانت تدفعه إلى الأمام ، قبل أن يسافر ولم يعد يملك سوى يديه لكن أحدا لم يتوقف عن إرسال الدعوات والآمال بلا أيد ولا عجلات
صار كل شيء أثقل من أن يحمله ، وخرج الى النهر لينهي كل شيء ، قبل أن يأتي إلى المستشفى يطلب المساعدة ، منحوه رداءا أزرقا ، وسريرا أبيضا ، وضع على طرفه لحافا ملونا من بلاده أحضره معه . يتحدث للناس عن بلده التي لا يعرفونها، عن الآمال التي يحملها ، عن ابنة أخيه الصغيره ، عن أخيه ، عن عمه ، وصديقه ، عن عائلته الكبيرة ، عن أمه التي أصبح يخشى عليها بعد أن تتالت الحوادث عليه ، يرى فيها سببا لوجوده هنا حتى يمنحها حياة أفضل ، وحينما تحدث عن قلقه عليها ، سألوه عما إذا كان يخشى أن تموت . ابتسم ، لسخافة السؤال ، ابتسم للقدرة التي يملكها الناس هنا لوضع المشاعر في عبارات معلبة ، تسأل عن الحقائق ، تجعل من البؤس اكتئابا ، وتجعل من الحزن على الأموات كلمة لم أعثر على ترجمة عربية لها بعد
انتشلوه من حزنه بطوق نجاة بلاستيكي جاهز للاستعمال مع الغرقى جميعهم ، ربما كان يتمنى أن تنتشله كف أمه التي لا يقدر أن يراها ، ربما كان يتمنى أن ينتشله غضن شجرة كان يمر بها غير عابيء في قريته ، ربما كان يتمنى حضنا دافئا ليجف سريعا بدل أن يتركوه ليجف وحيدا في البرد ،ربما كان يحلم في الليل بابتسامات سمراء ، وطبول أفريقية ، وملابس مزركشة وشعور خشنة ، وأقدام عاريه سوداء أطرافها صفراء من التراب ، ويصحو على سرير أبيض ، وابتسامات بيضاء كان يرى مثلها في الأفلام.

اتاوا
مايو ٢٠١٠

السبت، 17 أبريل 2010

صناديق وأرانب ....


















لا أعرف ما الذي يزعجني أكثر ، الأشياء التي لا أملك لها صناديقا ، أم الصناديق التي لا أملك لها أشياءا. فكرة تكديس صناديق فارغة تبدو أكثر إغراءا الآن من أي وقت مضى ، الأفكار التي لا تنتهي ، تلك التي كنت أظن أنني سأجد صندوقا يحويها ، تتحول إلى صناديق ، واستحال ملؤها إلى مهمة مستحيلة لا تنتهي

أفضل ما يمكن فعله الآن وضع خريطة هرمية للصناديق ، واختراع أبعادٍ أخرى تخصني ، غير الطول والعرض ، والوزن طبعا. مهمة شاقة أخرى ، لكنني إذا استطعت فعلها دون قطع صناديق كثيرة إلى قطعتين لكي أستطيع أن أضعها في مكانين مختلفين في نفس الوقت ، إذا استطعت فعل ذلك ، سأتمكن من مد قدمي على الكنبة الطويلة ، واصطياد الأفكارفكرة ، فكرة ، ومن ثم أستطيع أن أكورها ، وأرمي بها في الصندوق المناسب.
وقتها ستتلهف الأشياء على الصناديق لترتمي في أحضانها ، وتتلهف الصناديق على الأشياء ، وقتها أستطيع أن أترك الأفكار تتوالد كأرانب دون أن أفكر في الأقفاص التي ستحويها . وقتها ، أستطيع - كما فعلت صباح اليوم - أن أكوي بنطالي الرمادي في خمس دقائق ، وأفكرباسما في كم من الدقائق سأوفر لو كنت أقصر بخمسة إنشات
وقتها، سأستطيع أن أخرج خفيفا للركض بجوار النهر ، أفتح فمي لأشرب المطر كما كنت أفعل في بيت جدي قبل عقدين من الزمن ،وقتها سأغسل الأطباق كست بيت محترمة ، لا كخادمة تريد أن تنتهي من عملها ، بأسرع ما يمكن ، سأستطيع أن أترك الشاي يغلي مع الحبق لعشر دقائق كاملة ، وقتها سأتناول كتابا عشوائيا من مكتبتي لأقرأه قبل أن أنام ، وأقهقه على كل النكت بالغة الظرف ، وبالغة السخافة اللذيذة ، ولن أهتم في أي صندوق ستنام تلك الليلة ، كل الصناديق تستطيع استعمال القليل من السخرية

وقتها ، لن أمنع نفسي من الاستطراد في التفكير في اختلافات البشر ، حينما قال لي المريض الذي رأيته في الخامسة مساء هذا اليوم ،بأنني محظوظ ، لأنني سأذهب لأتناول عشاءا شهيا في بيتي مع أهلي بينما يقطن هو في المستشفى ، وجاوبته باسما بأنني مناوب لأربع وعشرين ساعة اليوم ، كنت أوشك أن أخبره ، بأنني رأيت مريضا آخر قبل سنة ، بحالة أخطر من حالته ، قال لي في نفس الوقت من المساء ، وهو يحدق بي وأنا أكتب شيئا من أجله : " ألا يجدر بك أن تكون على كرسي مطعم ما في الهواء الطلق ، في مثل هذا الجو الجميل " ؟
كنت أوشك أن أخبره ، بأنني لن أتناول عشاءا شهيا اليوم ، وأن زوجته الباسمة الى جواره تصنع له بيتا في عينيها ، لا أدرك لماذا لا يستطيع أن يراه، كنت أوشك أن أخبره ، بأنني حتى أتناول عشاءا شهيا في بيتي مع أهلي يلزمني أن أقطع سبعة آلاف ميل ، وأقلب صفحات التقويم صفحتين ، وأدفع ثلاثة أضعاف ما سيدفعه هو للجهاز الذي يساعده على النوم ، ولم يرد أن يشتريه بنقوده
كنت أوشك أن أخبره ، بأن صندوقه الوحيد الذي يكدس به الأشياء و يقارن به كل صناديق المارة التي يتخيلها على حقيقة غير حقيقتها ، ثقيل ، وربما يجدر به أن يوزع أشياءه على صناديق أخرى ولو كانت فارغة إلى حين ، كنت أوشك أن أخبره ، بأن الصندوق الذي أحضره معي إلي المستشفى لا يعبر بالضرورة عن الصناديق التي أملكها ، كنت أوشك أن أخبره ، بأن عليه أن ينشغل بصناديقه بدلا من التحديق في صناديق الآخرين
كنت أوشك أن أخلع طاقية الطب التي ألبسها، وطاقية العمر التي تلبسني ، وألبس عمامة حكيم عجوز ، وأطلق لحية بيضاء ، وأخبره ، هو الذي يكبرني بأربعين سنة ، بأن ،تفكيره في كم هو بائس مقارنة بالآخرين سيجعله فقط ، أكثر بؤسا، بأن الحياة التي يعلم عن قصرها أكثر مما أعلم ، قصيرة
..
الخريطة الهرمية التي لم أصنعها بعد ، تترك الكثير من الأرانب تتقافز في ممرات المستشفى ، دون أن يراها أحد ، كما تفعل كل يوم ، لا أستطيع أن أفكر في مكان يليق بها ، تلك الأرانب الغير مرئية ، تلك الكائنات الشفافة بلا وزن، تلك الأرانب التي تكبر لتصبح صناديقا ! لا أستطيع أن أتخيل لها مكانا أفضل من الصناديق (الفارغة)

أتاوا
April 2010

الاثنين، 22 مارس 2010

النفق













يمشي في نفق حديدي طويل ، مصمت تماما ، الخطوط العمودية الدقيقة لتي كان يفترض بها أن تصبح علامات للطريق حينما تلتحم بين الحلقات الضخمة التي لن تكفي واحدة منها لمثل هذا النفق ، لا وجود لها . يظن أنه يمشي في الاتجاه الصحيح ، لن يعلم كم قطع من المسافة إلا حينما يضع قدمه المرتابة على الأرض بعد الفتحة التي لم تظهر بعد ، لكنه رأى في المنام رجلا أقسم بأنها في هذا الاتجاه. لا يعلم إن كانت الأرض بعد النفق عشبا ، أم صحراءا ، أم هاوية
أصداء أناس بعيدين توشوش في آذان الحديد لعنات على الحياة في الخارج، أصوات أظافر يائسة تحك جدران النفق كأنها تحاول الدخول ، يجزع قليلا ، ولكنه لا يعلم إذا كانت الحياة حينما يخرج من الجهة الأخرى تشبه الحياة خارج الجدران لأنه - مرة أخرى- لا يعلم كم سيقطع من المسافة. الأكيد أنها تخيفه الآن آكثر مما كانت تخيفه بعد أن دخل النفق بقليل ، لأنها الآن أقرب إلى مكان الخروج كما يتوقعه.
في منامٍ آخر رأى أن النفق بفتحة واحدة ، قام مفزوعاً وفكر في أنه ربما يجدر به أن لا يتعجل المشي ، ولا يفكر بالخروج ، ربما سيبدو المكان مختلفا لو التفت إلى جدرانه ، بدلا من النظر الدائم إلى ما يظنه الأمام
متعب
أتاوا
مارس ٢٠١٠

الثلاثاء، 16 فبراير 2010

القيمة العادلة للأسهم




"It is a far, far better thing to have a firm anchor in nonsense than to put out on the troubled seas of thought. "

J. K. Galbraith


اشتروه بثمن بخس ، ثم مالبثوا أن باعوه بثمن أرخص ،وكأي (سهم) محترم ، لم يتحدث عن قيمته العادلة لأحد، ترك المحللون يتحدثون عنه ، عن قيمته التي لا "يراها " أحد ، عن "ظلم" أن يباع ويشترى بهذه الأثمان. عن مستقبله الواعد ، واليوم المحتمل الذي يتداوله الناس فيه بقيمة تشبه قيمته الحقيقية.
فكرة القيمة العادلة مغرية ، يكفي أنها تنظر إلى ماوراء الأشياء ، لا تؤاخذ أحدا بجريرة الظروف الاقتصادية ، ونفسيات المتعاملين ، والقيمة الظاهرة . الأكثر إغراءا من هذا ، أن تصبح الأسهم بعقل ٍ يخصها ، تحدد قيمة عادلة لنفسها ، دون دلائل يتعرف المحللون عليها بسهولة . وقتها تتمازج الأشياء والقيم بصورة معقدة ، تجعل من الأسهم وجها بثلاثة أقنعة وبلا ملامح ، قناع كما يراه المحللون ، وقناع كما يرى نفسه ، وقناع كما هو على الحقيقة ، والأخير لا يصلح لأن يكون ملامحا بلا قناع ، لأن الحقيقة في النهاية مستحيلة، لاستحالة النظر إلى الأمر بلا عدسات ،قد يستطيع الناس التحايل عليها ومحاولة النظر بالدقة القصوى الممكنة ، ولكن لايستطيع أن يخلعها أحد، لا أحد يستطيع النظر إلى شيء بدون عدسة ، نحضرها معنا إلى العالم ، تلتصق بنا وننظر إلى كل شيء من خلالها ، ونقضي أعمارنا- إذا كنا نحاول أن نكون منصفين- في الاستماع إلى صفات الأشياء من خلال أوصاف الآخرين لها عن طريق عدساتهم . كي نتعرف إلي
"الحقيقة".

لا يستطيع أحد بأن يدعي بأنه يعرف ما اذا كانت قيمة السهم/او السهم الذي يملك عقلا هي كما يرى نفسه ، أم كما يراه من حوله ، أم هي الحقيقة التي لا يعرفها أحد ، ويدعي الجميع ضمنا بأنهم يعرفونها. السهم الذي يملك عقلا يتم تداوله بلا أرقام، والأثمان بدورها ، تختلف من بورصة إلى بورصة ، ومن عدسة إلى عدسة..
يقبع كسهم في بورصة لا تعرفه ، يخبره أهله في وطنه البعيد بأن قيمته العادلة أكثر مما يوحي به الخط المستقيم الذي يصنعه في الثلج ويعتقد بأن عدساتهم تضخمه كثيرا ، حينما يحدث أن يطلق أحد تلك الأوصاف التي تخبر الآخرين عن عدساتنا يقولون له بأن عدسته غير منصفة على الإطلاق ، وأحيانا بأنها منصفة أكثر مما يجب ، تشبه منحنى الانحراف المعياري الذي لا يهتم الآخرون كثيرا في أي طرفيه يهوي ، ولكنه يهتم ، على الأقل حتى يعرف هل يجب عليه الصعود أم التقهقر. حينما يحاول أن يعكس عدسته إلى الداخل ، يصدق كل العدسات التي تراه صغيرا، كتب في دفتره: " أفضل أن أكون سهما جيدا يبخس قيمته من يجهله على أن أكون سهما تافها ، يرفع قيمته الجهال عينهم، ويعرف المحللون بأن قيمته العادلة أرخص مما يعتقدون بكثير"
منذ ذلك اليوم لم يعد يفكر في قيمته العادلة ، رضي بقيمته السوقية ، ابتدأ المحللون أنفسهم يصدقونه ،الأعصاب الملتفة بهدوء على جدار شبكيته خلف العدسة ، تقرؤ الأشياء بموضوعية ، ولا تمد أيديها إلا بما يمكّنها من وضع الملفات على الرفوف في سكينة وتناول الأوراق ووضعها في الأدراج ، تجبرت فجأة ! توحشت كتنين لم يخبر أحدا يوما بأن أيديه الطويلة تخترق العدسات ، كزهرة تبتلع حشرة بلا مقدمات ، خرجت أيديها لتصنع الحقيقة ، التي لن يعرف من أين جاءت أحد.

صنع الحقيقة بنفسه ، وما انفك ينتظر محللا بلا عدسة ، وبلا شبكية ، لم يخلق مثله بعد

Ottawa
فبراير، ٢٠١٠