السبت، 29 مايو 2010

لحاف أفريقي على طرف السرير

















أفريقي أسمر ، غائر العينين ، يتخصص في الإعلام ، يصلح لأن يعمل انقلابا على (موقابي) الذي عمر طويلا في زيمبابوي ، نحيل بما يكفي لأن يرفرف رداء المستشفى الأزرق حوله كشرشف تداعبه الريح على غصن شجرة ، جلس خائفا ، وتحدث خائفا قبل أن يبتسم قائلا : " ماذا تظنين ؟ " حينما سألته الطبيبة التي تقابله : هل تخشى أن تموت والدتك ؟
ابتسامة حملها كل ما يملك من السخرية ، ابتسم كثيرا للفروقات بين المجتمع الكندي الجديد الذي تعرف عليه قبل أسابيع ومجتمعه الأفريقي ، ابتسم حينما رأى عمود الحريق الأصفر على الرصيف الذي لم يره من قبل سوى في الأفلام ، استغرب حينما سألوه في الاختبار الذي أجراه بعد أسبوعين من قدومه عن فريق السيناتورز الشهير ، ولم يعرفه ، لم يعرف حتى ماذا يعنون برياضة الهوكي، تحرج من أصابعه التي تتحرك أصبعا أصبعا فوق لوحة المفاتيح حينما قارنها بأصابعهم التي تتقافز فوقها . ابتسم حينما حصل على بطاقة عبور الحافلة ، واستخدمها في قضاء اليوم كاملا من حافلة إلى حافلة دون أن يعرف إلى أين تتجه ، لاشيء يهم ما دام سيستخدم البطاقة للعودة من حيث أتى
ابتسم كثيرا ، قبل أن تكشر الحياة عن أنيابها ، غرق أخاه الصغير في زيمبابوي بعد أسبوعين من وصوله ، وبعدها بأيام ماتت ابنة أخيه بمرض داهمها ، وبعدها بأسابيع مات عمه ، وجاءت القشة الأخيرة حينما مات صديقه في حادث سيارة قبل أسبوع. تساءل عما يفعله هنا ؟ ولماذا أتى ؟ قالوا له أهله هناك بأن ينسى كل شيء ويركز على دراسته ، تلك التي دفعت كل قريته من ،أجلها الكثير ، كان يقرأ فلا يتذكر ، ويذهب إلي الجامعة محملا بحقائب من كل نوع ، يتحدث بلسانه الجديد الذي كان يدربه منذ سنوات طويلة لمثل هذا اليوم.
كان طالبا نجيبا ، عمل أبيه مديرا لمدرسة ، وحينما كان لا يخرج ليبيع الحلوى للأطفال في الشارع ، كان يذهب إلى المكتبة ، ويقرأ كل شيء ، أحس الجميع بنبوغه ، وقال أنهم عملوا كل شيء ليأتي إلى كندا ، على كتفيه حقائب ثقيلة من الآمال ، ألقى بها كل من يعرفه هناك شيئا ، حينما كان في بلده كان للحقيبة أيد ٍ وعجلات ، كانت تدفعه إلى الأمام ، قبل أن يسافر ولم يعد يملك سوى يديه لكن أحدا لم يتوقف عن إرسال الدعوات والآمال بلا أيد ولا عجلات
صار كل شيء أثقل من أن يحمله ، وخرج الى النهر لينهي كل شيء ، قبل أن يأتي إلى المستشفى يطلب المساعدة ، منحوه رداءا أزرقا ، وسريرا أبيضا ، وضع على طرفه لحافا ملونا من بلاده أحضره معه . يتحدث للناس عن بلده التي لا يعرفونها، عن الآمال التي يحملها ، عن ابنة أخيه الصغيره ، عن أخيه ، عن عمه ، وصديقه ، عن عائلته الكبيرة ، عن أمه التي أصبح يخشى عليها بعد أن تتالت الحوادث عليه ، يرى فيها سببا لوجوده هنا حتى يمنحها حياة أفضل ، وحينما تحدث عن قلقه عليها ، سألوه عما إذا كان يخشى أن تموت . ابتسم ، لسخافة السؤال ، ابتسم للقدرة التي يملكها الناس هنا لوضع المشاعر في عبارات معلبة ، تسأل عن الحقائق ، تجعل من البؤس اكتئابا ، وتجعل من الحزن على الأموات كلمة لم أعثر على ترجمة عربية لها بعد
انتشلوه من حزنه بطوق نجاة بلاستيكي جاهز للاستعمال مع الغرقى جميعهم ، ربما كان يتمنى أن تنتشله كف أمه التي لا يقدر أن يراها ، ربما كان يتمنى أن ينتشله غضن شجرة كان يمر بها غير عابيء في قريته ، ربما كان يتمنى حضنا دافئا ليجف سريعا بدل أن يتركوه ليجف وحيدا في البرد ،ربما كان يحلم في الليل بابتسامات سمراء ، وطبول أفريقية ، وملابس مزركشة وشعور خشنة ، وأقدام عاريه سوداء أطرافها صفراء من التراب ، ويصحو على سرير أبيض ، وابتسامات بيضاء كان يرى مثلها في الأفلام.

اتاوا
مايو ٢٠١٠