السبت، 5 مارس 2011

أية احتمالات تنتظرك حينما تدس كف اللغة في قبعة عقلك


أريد أن أكتب.
شيء يشبه الحمى يهبط علي. يجعلني أرتعش، أشعر بالدوار، وأوشك على السقوط إلى حفرة سحيقة. لا أستطيع أن أتعامل معه بأي طريقة. سوى أن أفتح نافذة جهازي. أمد أصابع يدي الاثنتين فوق لوحة المفاتيح دون أن تلمسها، وكأنني أمارس سحرا لا أتذكر أين تعلمته ، تهبط أصابعي مرتعشة في البداية، تمر الدقائق، تبدؤ ألوان الأفكار في الانسياب ، لونا، لونا، في كأس يمتلئ بمياه القلق. تغمض المياه عينيها ، دون أن يراها أحد، تمد قدميها، يبدؤ صداعها بالاختفاء، تلقي بثقلها على الألوان وكأنها تسبح فوقها، في علاقة غريبة لا تتكرر كثيرا، جسد المياه القلق، يسبح فوق الألوان التي ظنت أنها تسبح فوق الماء. علاقة تشبه أن تكتشف أن البحر يحتاجك حتى يسبح فوقك بعد أن ظننت أنه لا يحتاج أحدا.
لسبب ما، بعتقد الناس أن البحر بإمكانه أن يتحمل أي شئ، وأنه لا يريد شيئا على الاطلاق. يحمل سفينة هنا، ويسليَ أطفالا هناك، ويصنع مساكنا لبضعة مليارات من الأحياء، ويستقبل أطنانا من القمامة دون أن يشتكي. يهدر، ولا يعرف أحد ماذا يقول، يرسل أمواجه لتلعق أرجل المارة دون أن يلتفت منهم أحد. تعود تلك الرسل جميعها، مطأطئة ً رؤوسها تفسح المجال لرسل آخرين لا يفلح منهم أحد. وحينما "يبلغ السيل الزبى"، يرسل أمواجا غاضبة، قد تلفت انتباه الناس، ،ولكن ليس ثمة أحد يستطيع أن يفهم ، ماذا يريد البحر أن يقول. أية وحدة أشد من هذه ؟؟
أسلي نفسي بتذكر وحدة البحر حينما أتذكر وحدتي. أنا الذي لا أعرف كيف أرسل أمواجا غاضبة، ولا أريد لها أن تلعق شيئا أو يلعقها شيء، أن يسبح فيها أحد، أو تسبح فوق أحد. لا أملك سوى اللغة،هي الموج، وهي الريح، أحاول أن أنفخها بعيدا في عرض البحر الواسع بعيدا عن الشاطيء، كما يفعل البحر متذرعا بحيتانٍ لا تملك لغة لتفند ادعاءات البحر، ولا موجا لتغضب. لا أملك سوى ثمانية وعشرين قطعة، بسبب معجزة عظيمة جدا يسمونها اللغة، تستطيع أن ترصف هذه القطع بجانب بعضها في وحدات صغيرة، لتصنع ما يعتقد البعض بأنه سبعة ملايين وحدة، ثم تختار من هذه الوحدات ما ترصفه، وحدة ،وحدة، إلى جانب بعضها في تركيبات معقدة، مختلفة، لتجعل الأعين التي تمر فوقها، تضحك، تبكي، تغيّر حياتها،تتعلم ،تنمو، تنحرف،تغضب، تنشرح،تشعر بالاشمئزاز، تستمتع،تؤمن، وتكفر.
أية احتمالات تنتظرك حينما تدس كف اللغة في قبعة عقلك!
اذا كانت القراءة تنقلك من عالم إلى عالمٍ فالكتابة تخلق لك هذا العالم. الخيار بعدها يعود إليك. تستطيع أن تخلق عالما لا يراه سواك. كسرداب سري، يقود إلى مدينة ضخمة مجهولة. لا يملك مفاتيح أبوابه غيرك. تستطيع أن تختلي مثلا ، بالأباجورة التي صنعتها ، تتأملها، دون أن تعكر أذنيك ملاحظة تتعلق بالإسطوانة في طرف الغرفة لتكتشف أن الحديث كان عن الأباجورة. تستطيع أن تتنفس على راحتك في المكان، ربما تغير أثاثه من وقت لآخر، تصنع نجما يشبه الشمس، لكن إضاءته ناعمة، ويضيء على الأشياء التي تلتفت إليه، تخلق قمرا ثمانيَ الأضلاع، وورقة صفراء بدل السماء تخط فوقها حكمة ما، تتغير كل يوم. يمشي الناس على ثلاثة أطراف حتى يضطرون إلى التمهل. يختار البشر أوقات موتهم، وحينما يعبُر طاعنٌ في السن بين أناس يصغرونه يتهامسون عليه، يتندرون على عدم مقدرته على اتخاذ القرار، كما يتندر بشر العالم الحقيقي على عدم مقدرته في الفراش.
تصنع عالما يتبادل فيه التفكير والعواطف الأدوار، تتخذ قرارا فينصحك أحدهم بأن لا تندفع في أفكارك، ويدعوك لأن تحاول أن تترك العنان لمشاعرك قليلا، أو عالما تتحول فيه الرغبات المكبوته، أو الغرائز، إلى الأنا، ويتحول الأنا- بأفكاره الواعية ووظائفه المنطقية- إلى دافعك الأساسي، وحينما تعبر عن فكرة متحمسة، تحتاج لأن تناقشها مع غريزتك، عن طريق الأنا (الأسفل). تغير شيئا واحدا صغيرا، وتبقي كل شي آخر في مكانه، فتحصل على عالم مختلف، هذه الفكرة التي قد تبدو غريبة عندما تصنع عالما جديدا، موجودة في عالمنا الذي نعرفه، في تركيبات الجينات المعقدة، يتغير شيء صغير في مكان ما، فتتغير المحصلة النهائية تماما على الرغم من أن الأشياء الأخرى في مكانها. ترمي عود ثقاب في غابة، فتحولها إلى صحراء وأخشاب محترقة، تستبدل حرفا هجائيا بآخر، فتصنع لغة جديدة لا يتحدثها أحد وملايين الكلمات، تخطو فوق نملة لم تتزاوج بعد فتقطع نسلها حتى نهاية العالم، تحرق نفسك، فيهرب رئيسي دولتين، ويموت المئات، وتصنع التاريخ. كل هذه الأشياء الممكنة فيزيائيا، تحدث، ونصدق أنها تغير كل شيء بعد أن نراها بأعيننا، لكن ماذا عن الأشياء الغير ممكنة فيزيائيا؟
بالكتابة، وبالكتابة وحدها ،تصنع عالما، يرسل الله فيه إلى الأرض ملائكته، ليقضوا بين الناس، في محاكمات علنية، يتضح بعدها كل شيء! أو تصنع عالما ، تُكتب فيه أفكار الناس على جباههم، أو عالم يستطيع فيه الناس أن يقتلوا بعضهم بلا تبعات، وتتفرج علي ما يمكن أن يحصل، أو عالم يستطيع كل فرد فيه أن يعود طفلا إذا رغب، دون ذاكرته، أو عالم، كالذي صنعه جوزيه ساراماغو، يصاب جميع الناس فيه بالعمى، ماعدا شخص واحد.
تنفخ في عرض البحر، وتتمدد على فُرِش سردابك. تصنع كل هذا دون أن تطبع منه بضعة آلاف نسخة، كل واحدة منها صورة لما رأيت، تحاول أن تحاكيه، ولكن ليس تماما، تراها بأيدي الناس في الشارع، تتغير الصورة، تصنع منها كل عين مختلفة صورة مختلفة، ثم تحاسبك على هذه الصورة المتخيلة. يدس الناس أنوفهم في أنفاسك. يتسكع غرباء لا تعرفهم في أزقة مخك الضيقة.
هذه هي قضيتي، باختصار، أعشق الكتابة، وأخشى أن أصنع مجسما لمخي، تعبث به الأيدي، ويصنع صلصال أعينهم مجسمات يظنونها تشبهه، وفجأة أجده وقد أصبح لا يشبهني في شيء، تتناقله أيدي الكبار، ويتسكع داخله الصغار.
كرسامٍ تمتليء غرفة الرسم خاصته بألواح نصف بيضاء لرسمات بدأها ولا يعرف ما يصنع بها حينما تنتهي. أجلس على مقعد المرسم، أفكر ، بدلا من التفكير في الرسمة، فيما يمكن أن أفعل من أجلها حينما تكتمل، أخشى أن أخيب أملها. لا أريد أن أتعامل معها بطريقة عملية، أو اقتصادية، لا أريد التفكير في البحث عن مكان لها بعد أن تنتهي، عدم انتهائها يمنحني عذرا جيدا لكي أبقيها، تتكيء على خشبتين، تتصلان في الأعلى ، تتهامسان بشأن هذه اللوحة التي لا ترحل، الإتكاء بهذه الطريقة المائلة دائما ما يوحي برحيل قريب. أفكر في الخشبتين، في كم من الزمن سيتحملان في وضعية الوقوف المرهقة هذه.
أنهض من مقعدي ، أتأمل الألواح البيضاء، وأفكر طويلا، أي مصيرٍ ينتظرها بعد عشرين سنة.

متعب
أتاوا
مارس ٢٠١١





هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. "سبب معجزة عظيمة جدا يسمونها اللغة"
    (الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان)

    اللغة صيد الخاطر..

    they say a person's declarative memory is tied to language... language that makes your life exist to yourself and to others. When others say something that captures your feeling... you feel relieved... there is existence and validation to who i am out there in the "real" world which we collectively construct...

    This language says 'i am'... it says i might be alone, but at least I'm alone in the midst of others... or with others...

    this language, a manifestation of my inner self..
    as it develops, we worry about it, feel invaded by these 'strangers roaming its narrow hallways'... bothered by these children not appreciating its value...

    still we are excited, not particularly by the juggling of it's twenty -some pieces, rather by how these pieces latently and synergistically create a 'holding environment' for 'who' and 'how' we are, not 'what' we are..


    being held... means not being 'alone'.. being held means: i can be 'whole' or 'cohesive' even if this way....

    ردحذف