الثلاثاء، 31 مارس 2009

أحن إلى خبز أمي

 



هرمت.. فردي نجوم الطفولة

حتى أشارك صغار العصافير
 
درب الرجوع لعش انتظارك
 
 
 
..
 
محمود درويش 
 
 
 
 

* photo by :Sandy Powers

قطرة تتكور على نفسها




الأمس القاتم ، الملطخ بالوحدة ، وضعت آثارها في كيس أسود ، حملته سيارة الصباح شرقا ، وتوجهت غربا إلى المستشفى .
 
رجل الأمن العجوز ، يسألني عن يومي ، وقبل أن أجيبه يقول : أتعرف ، كل يوم هو يومٌ جميل ! جملة سطحية ، ربما تتزحلق على قشرة المخ وتسقط ، لكنه عرف – لسببٍ أجهله-  كيف يحشرها بين التعاريج ، فتعصر قليلا من السيروتونين والدوبامين  ، تحرك عضلات وجهي بابتسامة ، لا تختفي حتى تبدأ جملته المحشورة بالذوبان ، رويدا رويدا ، وتتحرر عضلات وجهي تدريجيا مع عودة ذلك الجزء من المخ كخد يلتصق بالزجاج يسحبه أحدهم بحركة بطيئة .
نعم ، كل يوم ، هو يومٌ جميل .
أذهب إلى دكان صغير في طريق عودتي ، أرى عجوزا آخر ، تصحبه ثمانون سنة عاشها ، تقف بجانبه ولا تحط على كتفيه ، يوقع أوراق اليانصيب ! أتمنى أن أعرف ماذا سيفعل بالملايين لو فاز بها ، أفكر ، كيف يستطيع أن يبتسم ويبدو مرحا ، إذا كان خلال ثمانين سنة كاملة، لم يحقق ما يريد ! التفسير الوحيد ، هو أن يكون قد حقق مايريد ، ولكنه يملك نفسا لا ينقطع ، ورقبة لا يستطيع بها الالتفات إلى الخلف ، وأقداما لا تعرف كيف تتوقف عن الجري ، حتى لو كان ذلك الجري ، لعبة احتمالات يراقبها من فوق كنبته في دار للعجزة .
أعود إلى الشقة ، أفكر في الآخرين !آه ..  الآخرون . الغرباء ، والأشقياء ، والتعساء ، والكاذبون ، والأوفياء ، الصادقون ، والأغبياء ، المحتالون ، والأذكياء ، المجانين ، والعقلاء ، الموسوسون ، والصامتون ، والحكماء .  الغريبون ، واللطفاء . الفرحون والتعساء ، الممتعون ، والمنفرون ، الرائعون ، والذين تشفق عليهم وتحزن من أجلهم ، والذين يجعلونك تشفق على نفسك . الحزانى بلا سبب ، والراضون رغم كل شيء .
خليط متشابك ، كمستنقع عظيم ، سميـــــــــك ، ولزج ، ومتموج .  تنظر إليه، كأنك قطرة تتكور على نفسها في حافته  ، تدرك جيدا أن به ماءا نقيا ، وذهبا مصهورا ، ونفطا قد يلوثك قليلا لكنه سينفعك في آخر المطاف ، ونفطا خاما سيسدد لك فاتورة تعبك مضاعفه لو نقيته واعتنيت به . وطينا لا ينفع في شيء . أرى نفسي قطرة ماء تتكور على نفسها على حافة الخليط العظيم  ، ويتصرف كموج تحركه رياح لا أراها ، من الممكن أن يبقى بعيدا دون أن نتلامس ،  يقترب ، ويغير رأيه قبل أن يصل فيعود أدراجه ، ومن الممكن أن يلمسني ، ومن الممكن أن يغمرني تماما ! يغمرني ، وأحاول الهرب ، كسلحفاة فاجأها موج بارد ، أرهق كل أطرافي في محاولاتٍ لدفع الكرة التي أتمدد داخلها ، وأبذل من الجهد ما يجعلني أعتقد أنني وصلت إلى مستنقعٍ آخر –إن كان هناك مستنقع آخر – لأكتشف أنني لم أتحرك سوى قيد أنمله ، أتمدد داخلها من جديد ، وأدفع سطحها الداخلي المليء  بطبعات كفوفي وأقدامي المشدودة ، فقط لأبقى في مكاني .
  لا أعلم مالذي يحركه نحوي في الزاوية التي أتموضع بها ، ربما كانت قطعة ذهب منسية ، قوية بما يكفي لتحرك الأشياء في اتجاهي ، تبحث عن ماء يزيل عنها السواد فتلمع من جديد ،أو طين يريد أن يتخفف من ترابه . أو قطرة ماء ، كانت تقف مثلي على الحافة يوما ، وتريد أن تعود لتتحد بقطرة تظنها نقية . وربما أقدار ريح ، تتصادف مع أقدار موضعي ، والجزء الذي يليني من ذلك الخليط .   أفكر في أن أبدأ رحلة ملحمية أفقية على الأطراف ، لأبحث عن قطرات أخرى ،لكنني  لا أستطيع أن أرى جيدا من خلال الماء ، في محيط نظري (المائي ) لا أرى أي قطرة تقف ، والتحرك البطـيء الأفقي سيستهلكني ، كمغامرة لا أعلم شيئا عن نتائجها .
حتى إنني لا أعلم شيئا عن فيزياء الزمان والمكان والمادة هنا ! زمانياً ربما كان هذا هو  الوقت الذي استهلكته كل عناصر الخليط الذي أرى في تقرير أين تقع ، وربما كان الوقت الذي سأقضيه لأدور دورة بسيطة على الأطراف أقل من الوقت الذي أقضيه متكورا .  ومن الناحية المكانية ، ربما المكان أصغر بكثير مما أعتقد ، وربما كانت هناك تجمعات مائية أخرى ، لكنني لا أعرف كيف ألتفت داخل قطرة بأطراف مشدودة ، وموضعي على الزاوية وتحديقي بها ،  يشبه نملة تحدق في فتحة ترابية في غابةٍ نيجيرية ، بالنسبة إلى الكوكب . أما من ناحية فيزياء المادة ،  ربما كنت أصلا داخل الخليط –وهذا احتمال وارد جدا – لكنني أملك خصائص فيزيائية تفصلني عن البقية ، كما يملك البقية خصائص تفصلهم عني ، والسواد الذي يتسرطن على سطح كرتي بألوان قزحية وأهرب منه ما هو إلا طريقة للتمازج والتحول البطيء والنمو .
أمي ،ببساطة ،  تقول أنها تعرف كيف تقتنص المناطق الأنقى من الخليط ، تقول أنها ستغرف لي منه ، وتسكبه عليّ . تردد دائما أن الحياة بلا قطرات نقية .
لا ريب أن ثمة قانونٍ كوني ، يجعل قطرة حبر أسود تصبغ كأسا من الماء النقي . وكيسا من القمامة تطغى رائحته على حقل من الأزهار ولو كان في آخر أطرافه .  ربما كل ما يلزمني أن أغلق أنفي قليلا ، وألتقط الأزهار وأرحل بها إلى مكان ٍ آخر ، ولكنني أفكر أكثر من اللازم !
ربما يلزمني أن أغسل السواد مباشرة ، وأتحرك في اتجاه آخر بدلا من أن أسترضيه وأطلب منه أن يبعد لزوجته والتصاقه عني إذا سمح ، وأخبره كم هو العالم مليء بسوادٍ آخر سيفرح به . أن أتوقف عن الشفقة عليه دون أن أعرفه ، والتفكير في وجهة نظره من الأشياء .وإمكانية وجاهة فكرة التخفف بالماء .
ربما فقط يلزمني ، أن آخذ نفسا عميقا ، وأتوقف عن الخوف من السواد الذي يعلق ، وغرابة الريح ، ووقاحة الطين ، وأذهب للخوض في الخليط كفلاحٍ يلبس حذاءا جلديا بعنق طويلة
،يهرس الأشياء في طريقه ،  يلتقط ثماره ، ويرحل ، وينسى كل شيء بعد أن يغتسل ، ويقضم الثمار  الطازجة على ظهر كنبة بيضاء !
 
 
Ottawa , Feb 2009

الكتابة


الكتابة ، السيدة الوحيدة في العالم التي أستطيع أن أهجرها وأعود إليها ، فأجدها كما كانت . أدرك أنها تعطي مفاتيح مدينتها الدافئة لأناس كثر ، لكنها لا تخجل من أن تفعل ذلك في ضوء النهار . لا تكذب بشأن ذلك .لا تتخبأ تحت الأغطية المريبة ، لا تتستر بالظلام ، لا تكتم ضحكاتٍ ماجنة   خلف أبواب بريئة ، ولا تفوح منها رائحة الخطيئة .

غرقت في البحر ذاته الذي لم أتعلم بعد كيف أعوم فوقه ، لكنني لم أشأ أن أقول شيئا بأنفٍ متحشرج . أستلقي الآن فوق خشبة لم يجلبها الموج صدفة ، ولا كرما . أظن أن أفضل ما يمكن أن أفعله الآن من فوق هذه الخشبة ، أن أرحل ببصري بعيدا ، شربت من ماء البحر المالح ما يكفي ليخالط أنفاسي ، ويصطدم بأنوفكم   ، لا حاجة لي بأن أتقيّأه أمام أحد  .  أتصور أنني لو تحدثت عن قطعة ثلج نسيها الهواء الدافي الذي مر بعدها في زاوية الرصيف   لذابت في مكانها دون أن أدري . 
طائرة الذهاب ، وأحلامي المرتبة داخل علبة شوكولاته لم يتناولها أحد ، والساعة التي قضيتها هناك ، دموع أمي ، ضحكاتها ، والطفل الذي يحمل تاريخ ميلاد يصلح لسيارة فارهة ، صديقي الكهل الذي يتعذب ويعذب ،   أصدقائي الصغار الذين يكبرون في الاتجاه الخاطيء ، عشي الذي أردت أن أعيد ترتيبه ، وابتدأت أشعر بأن أعواد القش أثقل وأندر مما كانت عليه ، مدخراتي التي تتبخر أمام عيني ، الأحداث التي ترسل الناس إلى المستشفيات والسجون والشوارع وأرسلها إلى زاوية ممتلئة بالأشياء المكدسة في زاوية قلبي اليمنى. أضغطها جيدا ، وأحشرها حتى تختلط باللحم وتبعد عن الدم . أحشر بين كل عاطفتين مؤلمتين عاطفة جميلة ، ولا شيء أصعب من محاولة إخراج العاطفة الجميلة بعدما تتعفن بيد عمرو لا بيدي . بعد أن أدركت أن يد عمرو باغية ومتقلبة وتفعل مايحلو لها ، ابتدأت بتجنب وضع عواطف جميلة ، حتى لا آتي بعد زمن لإخراجها، وأنكث كل الأشياء المضغوطة فتتمدد ، وأرهق إبهام عقلي في محاولاتٍ لحشرها مرة أخرى في الزاوية .
أي سخف يجب أن يستوطن عقلي ، قبل أن أحاول أن  أعصر كل هذا في كأس واحد من الحروف .
أفكر أن أكتب شيئا كرسائل جوته التي ضمنها روايته (آلام الشاب فيرتر)  . أو كسقف كفاية علوان . كم أحتاج من الزمن والجهد والألم ، لأقطر نفسي في قارورة كتاب . لأتحدث عن كل الأشياء الصغيرة ، التي أراها جيدا ، التي تضيع في زحمة الناس ، والمدن ، والسيارات .   كم أحتاج لأدوزن كل النغمات الخافتة ، التي يغطيها الصخب ، كم مقصا أحتاج لأطفيء  كل المصابيح الكهربائية ، وأصف   رصيفا باهتا ً يجالس الليل  . كم قلبا أحتاج لأتحدث عن ذلك الذي لم يعد صالحا للكتابة  ، أي حبال ، ومواد لاصقة ، وخفة (عقل) تجعلني أبدو ساحرا    ، سأحتاج أن أستخدم ، لأربط صوت محمد عبده ، بالبرد ، بشوقي لأمي ، بالطائرات التي تذهب بي وتعود ، بالأرصفة ، والشوارع ، والأوجه الغريبة ، والأوجه المألوفة ، بالمرضى ، وسيرهم الذاتية ، التي أحاول أن أغير فيها دون موافقة صريحة من طرفهم ، والمشردين ، وابتسامات باعة القهوة ، وهدوء أمينة المكتبة ، بالليالي الطويلة على سريري ، والليالي الراكضة في المستشفى ، والليالي  الناضحة بالصداع والبرد ، والليالي الضاحكة ،   بالصباحات الهادئة ، والطرق المنسابة ، بالنهر الهادي ء ، وذاك القارب الصغير ، بشعور الفرح ، وشعور الوحدة ، وشعور النشوة ، وشعور اللاشيء. كيف أربط أشعار ناجي ، وغزليات ابن زيدون ، وبلد رسول حمزاتوف ، و(مسوخ ) كافكا ، بتعليقات قراء الجرائد السعودية ، والمقالات التي تنخر في مزاجي ، وسخافة (بنات الرياض) التي أشعرتني بشعور رجل أمريكي حدثته عن مشاهدة برنامج (جيري سبرنقر)عن طريق (أوربت) السعودية وكيف أنه يتعرض لدواخل المجتمع الأمريكي ، ورأيته يلوي فمه  ، ولم أفهم حينها شعوره . ظننت أنه يخجل من تعريته بهذا الشكل ، وتعلمت فيما بعد كم هي الانتقائية فعل خائن جدا ، يلوي عنق كل شيء.   كيف لي أن أربط هذا بمكالمة   تعكر مزاجي في الرابعة صباحا . وكيف ألمح بذكاء إلى علاقة سهري في المستشفى، وقضاء ساعات أربع مع مريض وعائلته ، أهون عليهم ، وأستمع لهم ، وأحاول أن أساعدهم ، بتلك الخائنة التي تعهرت فجأة . !
كيف لي أن أربط أغنية غوار ، التي أدندن بها في مساء سعيد ، (شو حبيتي بنص نصيص هالبورزان ) ، بتلك التي أحبت نص نصيص ، كيف أصف الثانية التي أغمض فيها عيني وأنا أكتب التاريخ على روشتة الدواء وأتذكر ، هذا التاريخ الذي كان سعيدا لسنين ، وأصبح عاديا جدا ، أتذكره فقط بعد أن أنتهي من كتابة ، ويثير في ّ كآبة خفيفة ويرحل  !أبتسم لنفسي ، ولا يسألني أحد لماذا أبتسم !
 كيف أجد علاقة بين زحمة شوارع الرياض ، ووجوهها الغاضبة ، بتقاطيع وجه غاضب في غرفة الإسعاف أمر من خلاله إلى الرياض مرة أخرى . كيف أجمع بين السعوديين الذين لا يفكرون باحترام الآخرين ، وعجوز يبقي لي الباب مفتوحا بعكازه في جملة واحدة . كيف أجلس على مقعد أرى من خلاله عالمان ، وانتقل بينهما برشاقةجنّي .
، كيف لي أن أجمع الأحداث كلها ، ابتداءا بسحب طرف كم كنزتي لأقوم بتدفئة أصابعي ، مرورا بحادث سيارة سائقنا الذي ذهب بالسيارة للتشليح ، وارتعاش صوت أمي ، انتهاءا بعناق ٍ باكِ ، وأخرج العوامل المشتركة ، فيما بينها وابدأ بالحديث عن الأشياء التي تملك أربعة أشياء مشتركة فيما بينها فما أكثر ، وأخلطها في أنبوبة حبر ، تكتب فصلا ً ، وتتوقف .    ثم أقوم بعمليات حسابية معقدة ، تعطي الأشياء أرقاما بناءا على أهميتها ، ومن ثم تعطيها رقما آخر بناءا على علاقتها بالأشياء الأخرى وعدد العوامل المشتركة ، ورقما هو ناتج مربع حجم الدم الذي تضخه في عروقي مقسوما على حجم الدم الكلّي .واجمع الأرقام لكل (شيء) ، وابدأ بالأشياء الأكبر فالأصغر .
يؤرقني الكلام الذي لم أقله ، أنماط التفكير التي أتفرج عليها وأود أن أعلّق ، وليس ثمة آذان ، الأغلاط المنطقية الفاضحة في الجرائد ، الفئران التي تدور في علب زجاجية ، ولا أدري بأي لغة أحدثها لأخبرها عن أبوابٍ لا تراها ، أفكر فيما اذا كان هناك فأر مغتر بنفسه بينها يفكر في شرح الشيء نفسه للقش الأصفر تحته . هل أنا أهم أم أتفه مما أظن ؟   لا أحد يخبرني    .   لا أحد .
كيف أنسج كل هذا في سجادة واحدة أجلس عليها ، أو في معطفٍ أتلحفه ، أو رقعة فنية أعلقها ، أو جورب ألبسه في قدمي ، أو هل يجدر بي أن أكومها ككرة من الخيوط وألقي بها في الزاوية ، أو هل من الأفضل أن ألقي بها في سلة المهملات ، أو ربما من الأهون أن أترك الخيوط تتناثر في كل مكان ، الملقاة وحدها كخيوط مبعثرة ، والناتئة   ، لا سيما تلك الناتئة المتصلة بأشياء أخرى ، ليس من الحكمة جذبها ، ومحاولة وضعها في نسيج آخر . ربما . يجوز .محتمل .  لن أعرف إلا عندما أتلحف المعطف ، وأستلقي على السجادة ،أو يدغدغني الجورب ،  أو أتأمل الرقعة .وحينها ستكون أي محاولة لإلقاءها في سلة المهملات متأخرة جدا وعبثية جدا .
 ومضيعة   للوقت . والدم . والأرقام . والتفكير . والحبر . واستثمارا سيئا لآذان لن تبقى طويلا . وخيوط كان بإمكانها أن تنسج نسيـجا خالدا .

أتاوا - ديسمبر -2008 

رمضان الكندي مرة أخرى ، وكرة الصوف



عاد رمضان الكندي . كانت أول مرة أقابله فيها منذ عام ، كنا نحترم بعضنا كثيرا ، أجلـلته ، وغمرتني سكينة لا أظن أنني كنت أتصنعها . واحترمني بدوره ، كان يربت على كتفي حينما أفطر وحيدا ، ويرسل لي صوت أمي يسألني عما صنعت من فطور ، وكيف هو الصيام هنا .
إلا أنه في هذا العام ، على أنني ما رأيته منذ سنة ، جاء كصديق قديم ، يصفعني على قفاي ويضحك . يرونه أهلي في الرياض من بعــــيد ، أنا وهو ، نقطتين متعانقتين ،ومعرفة سابقة ، ولا يسألني أحد عن التفاصيل .
كم استثقلت حضوره في بداية عودته . وقته أطول . عمله أكثر . وروحانيته أقل . صداعه يمتد من الثامنة صباحا وحتى السادسة مساءا . قبل أن أنام وأصحى على صوت المنبه الذي يؤذن بطريقته الخاصة .
في اليوم الأول ، عزمت نفسي على سفرة أرضية ، صنعت قهوة عربية ، ووضعت حبات من التمر قبل أن أكتشف أن صلاحيته انتهت ، وإبريق شاي ، خبز ٌ دافيء ، وزيت زيتون ، ولبنة . وعادت الروحانية بجيوشها ، بحثت عن مصحفي الصغير . كرهت تفكيري الطفولي ، جالست رمضان الكندي على السفرة ، وأعتذرت عن سخافتي ، واستثقالي لحضوره ، توقف عن الضحك ، لم يتوقف عن صفعي في الأيام التالية ، لكنني كنت أحتسب الصفعات ، وأبتسم .
كل يوم ، له خريطة خاصة به ، قبل أن يؤذن المغرب ، وأصل إلى الكنز . ثم أتضاءل أمام نفسي حينما أفتح الصندوق . أعزم أن أكون أكثر صبرا ، ويزيد صبري في كل يوم ، إلا أن الخريطة تتغير في كل يوم بدورها .
قررت أن أطلب من رمضان أن يعلمني الصبر ، وتقدير نعم الله علي ، في اليوم التالي ذهبت إلى المستشفى في الثامنة صباحا ، قبل أن أغادر بعد أن انتهى الدوام إلى البيت منتظرا (بياجر) المستشفى الآخر ، أولها جاء في السادسة ، ذهبت إلى هناك ، وأفطرت على قهوة ، على مرمى من عين المريض الذي جئت لأراه . لم أغادر إلا في الواحدة والنصف صباحا ، لم أجد أحدا يستقبل جياع الليل سوى ماكدونالدز ، أخذت مكاني واقفا بين الكثير من المراهقين الصاخبين ، والصاخبات بعد أن شربوا كل مافي علب الليل قبل أن تغلق ، وتلفظهم إلى الشارع . شعرت وكأني حصان على شجرة قرود . ابتسمت للفكرة ، وظنت قردة سوداء أنني أبتسم لها ، تأكدت من فكرتي ، لو لم أكن حصانا لما لاحظتني بين هذا الكم من القردة .
أكلت صامتا كطفل يقضم رغيفه في الزاوية . أتحسس (بيجري) ، وأحملق في اللوحة على الجدار ، وكأنني أنفذ إلى ما خلفها . أفكر في العودة إلى البيت ، أخبرتني الممرضة قبل أن أغادر أن ثمة مريضة يمكن أن يحولهاطبيب الإسعاف إلينا ، لكنها لا تعلم متى ستكون جاهزة . قررت أن أذهب إلى البيت ، ربما أتسحر بطريقة أفضل ، ربما لا يحتاج الطبيب لتحويلها .
في الدقيقة الثالثة من دخولي إلى الشقة ، زعق البيجر كديك ٍ لم يدربه أحد على الزعيق فقط في أوقات الزعيق ، المريضة تنتظر ، خرجت إلى هناك . قرأت في ملف المريضة ، قابلتها مع صديقها ، قابلتها بعد ذلك لوحدها ، وخرجت لأكلم صديقها ، بكى من أجلها ، ربت على كتفه مطمئنا ، أدخلتها إلى المستشفى ، وخرجت منه ، فاتني السحور . لكنني شعرت وكأنني وجدت كنزا دون خريطة . خرجت مبتسما ، ابتسامة من وافق رمضان الكندي على أن يعلمه الصبر . توقفت عن النظر إلى الخرائط كل صباح . وأصبحت أفطر دون أن أخرج صناديقا من الحفر .
ذهب الجوع ، والعطش ، وتضاءل صداع القهوة ، والهواء الكثيف . وبقى شوق يتكور في حلقي مع كل فكرة أمضغها ، وأحاول بلعها فتتجمع ككرة من الصوف ، يعلق بها وجه أمي ، رائحة قهوتها ، ركبة أخي الذي يجلس بجانبي ، ابنه الذي لم أره بعد ، ابتسامات أخواتي ، كنبة الزاوية في الصالة ، صوت صلاة الحرم .ثوبي الأبيض .
أشعر وكأن كرة الصوف هذه ، مضمارا طويــلا أركض عليه كجسم ضئيل ، لا يراني أحد بعينه المجردة ، أركض ، وأركض ، وأقابل غابات من الشعر الذي لا يراه أحد كما أراه ، وأقابل الأشياء العالقة ،أتقيها بكفي ، أشم روائحها ، فلا يمكنني أكثر من ألتفت ، أحس بنغزات سريعة في قلبي ، ونغزات أبطأ ، على حسب سرعة الركض ، وكثافة الشعر ، أشعر بأنه بمجرد وصولي للرياض ، سأتوقف ، وأستلقي على الخيط ، الذي سيتكور سريعا فوقي وتحتي ويصبح كل شيء ككرة صوفٍ صغيرة ، أجلس داخلها ، وأتناول كل شيء بيديّ بعد أن تكوّر ، بلاحاجةٍ للركض ،وأملؤ الكرة/الخيط بروائح أخرى ، وأفكار ٍ أخرى ومشاعر أخرى ، قبل أن أمتطي ظهر طيارة العودة إلى هنا ، وأثبت طرف الخيط في الرياض ، وأمسك كرة الصوف التي تتفرع منه ، وأسحبه معي إلى كندا ، وتتمدد فوقه الروائح ، والأفكار ، والمشاعر ، الجديدة والقديمة .
ربما يلزمني أن أبحث عن جسم ضئيل آخر ، بخيط يشبه خيطي ، ونلصق الخيطين بجانب بعضهما ، باتجاهٍ واحد ، نمشي سوية في الطرق السالكة ، وننتقل من خيط إلى خيط كلما واجهنا غابة من الشعر في أحد الخيطين . فنصل سريعا ، دون نغزات ، لكن مشكلة الأجسام الضئيلة الأخرى ، أنها لا تخبر بكمية الشعر الموجود على خيوطها ، ويستحيل أن تراه بعينك المجردة قبل أن تقترب . فلا حيلة لي في رؤيته إلا بعد أن لصق الخيطين . وعندها قد تكون غابات الشعر ، هناك ، أكثر كثافة من غابات الشعر على خيطي ، بل ربما تكون كثيفة لدرجة اعتراض خيطي في مواقعه السالكة . وخيطي ، ربما يتفسخ منتجا مزيدا من الشعر حينما يمشي فوقه جسمين ضئيلين طوال الوقت .
أتخيل أيضاً ، أن ثمة أجسام ضئيلة تائهة في ملكوت الله لا خيوط لها تبحث فقط عن خيوط تتشبث بها ، وأخرى بخيوط بلاستيكية باردة لا تتكور ككرات الصوف الدافئة ، و"شعرها" له نهايات جارحة عندما يتفسخ ، ليس كالزغب في الخيوط الصوفية . وأملك ما يكفي من الإنصاف لأتخيل أيضا ، أن أجساما ضئيلة أخرى ، تتزحلق على خيوطٍ حريرية لا تتفسخ ، ربما سأسعد بالتزحلق فوقها ، لكن لا أدري كيف سيشعر الجسم الضئيل الآخر حينما أحتاج لدفء غابة كثيفة في خيطي الصوفي أريد أن نزورها سوية ، أو حينما أتكور داخل كرة الصوف ، أو حينما أحتاج للمرور من خلال نقطة عبور في غابة كثيفة لا بد لي من اختراقها .
الأجسام الضئيلة الأخرى ابتسمت لي كثيرا . تحاول أن تتشبث بخيطي في مواقعه السالكة . لكنني أخاف من أن لصق أي خيطٍ آخر ، قبل أن أكوّر خيطي ، ونسحبهما سويا . قدري أن أحمل كرتي الصوفية ، وأبحث عن كرة أخرى أتشبث أنا بها . وأحاول أن أحكم على تفاصيل الخيط من خلال شكل الكرة . وأسحب الخيطين من الرياض إلى كندا ، دون أن يتمزق شيء .
حتى ذلك الحين ، سألاعب خيطي ، وأتزحلق فوقه كبهلوانٍ ضئيل . أركض فوقه . أكوره وأفرده ، وأتسلق غاباته ، أتجاوز أكثرها تشابكا وأخرج لاهثا ،متعرقا ، متقطع الأنفاس ، وألتفت في كل الاتجاهات، دون أن يصفق لي أحد ! ودون حتى أن يراني أحد !
متعب
أتاوا - سبتمبر -2008

ابن أخي ...... !



ابن أخي ، خرج إلى العالم بالأمس ، يلاكم الهواء ، مغمض العينين . سيحتاج مخه الصغير  إلى  سبع سنين ،ليفهمني حينما أخبره ،إذا أمد الله في أعمارنا ،متى ، وأين ، سمعت بخبر ولادته .  وسيحتاج إلى عشرين سنة ، لكي يصبح قلبه الضئيل الآن كبيرا بما يكفي ليشعر بما شعرت به .  

صنع لي قرابة جديدة ، ونحلني لقباً لم أسمع أحدا يطلقه علي من قبل سوى تلطفاً  . أصبحت عمـّـاً .  وأصبح أخي أبـاً . هكذا في اللحظة التي تعقب الخروج من بوابة المستشفى ، وتسبق ركوب السيارة ، تتغير الأشياء .

هكذا دون أن أنتظر ولادة وشيكة ، ودون أن أقل ّ أحدا إلى المستشفى ، ودون أن أسلي انتظار أحد ، ودون أن أختبر ما يتوجب علي ّ فعله إذا كنت هناك .  أرجح أن القادم الصغير ، أطلق صرخته الأولى في الهواء ، وأتبعها بقبضتيه ، وشهق قلب أخي ، وخرج ليحادث أمي ، وقفز قلبها فرحاً لمقدم حفيدها الأول ، وتناثر دمع قليل الملح  هنا وهناك ، وأنا استمع بإنصات ، تعابير وجهي لا توحي بشيء ، قبل أن أخرج من المستشفى ، وتبدأ "شرطات" الحياة دبيبها واحدة واحدة ،في قفر هاتفي ، فينهال السرور كشلال ٍ كان ينتظر على سد في جغرافية ما ، مابين الرياض ، وبين أتاوا .

آه يا أخي ، تركتك في الرياض أخا ، وسأعود إليها لأجدك أبا ، تحمل في حضنك ابنك الصغير . أخبرك كم يشبهك ، وتعيرني إياه لأحمله ، لا يلقي لنا بالا ،يبتسم لنفسه ، ونظن أنه يبتسم لنا .

شعور لا أستطيع وصفه ، ذلك الذي شعرت به وأنا أرى صوره هنا على الشاشة ، ذلك المخلوق الصغير ،النائم في "زهمولته"  يثير فيّ مشاعرا غريبه . ثمة ذبذبات خفيفة ، في رأسي ، تصنع دوخة لذيذة ، وأخمن أنها تحدث لأنني أحفر حجرة جديدة في ذاكرتي ، جديدة تماما ، لم تكن موجودة من قبل سوى كفكرة ، وأصبحت شخصا ، برئتين ، يضع في الحجرة مايشاء ، وليس لي إلا أن أتفرج عليه يعبيء ذاكرتي .

أسبوعان يفصلاني عن ضم أصابعه الصغيرة حول سبابتي الكبيرة ، عن حمل جسده اللين الضئيل ، عن سماع بكائه الذي سيختلف كثيرا عن صوت أي بكاء مشابه ينغض علي نومي في طائرة العودة . عن التفرس في ملامح وجهه بعد أن رأيته صورته كصديقٍ افتراضي . عن تقبيل ذلك الذي صنع لي شوقا جديدا ، لم أختبر يوما كيف أودعه ، ولكنني أعود مشتاقا لرؤيته .

ذلك المخلوق الصغير ، الذي لا يعرفني ، ولا أعرف كم ستختلف بالنسبة له قبلتي عن ذبابة تحط على خده .كل ما أعرفه أنني أريد أن أضع قبلة على خده أكثر من أي ذبابة في العالم ! سأحتاج إلى أسبوعين حتى أصل إلى هناك ،طيرانا !

 

متعب

أتاوا-أغسطس 2008

يوم آخر





في يوم آخر ، كنت أشعر بحاجة للثرثرة ، أشعر وكأن تركيزي ، يشبه شخبطات طفلٍ بألوان شمعية على صفحة بيضاء .
أعود إلى الوراء خطوتين . أقرر أن أخرج إلى النهر ، فأغسل عينيّ بمياهه . وأختزل الألوان في الأخضر ، ولون الماء ، والصخور الرمادية ، والقوارب البيضاء  .
أين يمكن لي أن أجد عاملا مأجورا ، يشذب الشجيرات العصبية في عقلي ، لا أرغب في اقتلاع  كل شيء ، ولكنني بالتأكيد سأكون ممتنا لو استطعت قطع الزوائد لكي تتوقف عن سحب الأوكسجين من عروقي . وحتى لا أصطدم بها مرة أخرى ، ولكي أتمكن من توفير الغذاء والرعاية للأغصان التي تنمو رأسيا .
أستلقي كخشبة على حدود النهر ، أغمض عيني ، وأفكر .  
فاكهة أفكاري كثيرة ، أفكر فيما أختار منها ، لأخلطها بعقلي ، وأتذوقها بلساني وأحاول أن أصف ما أتذوق .
أشك أحيانا فيما إذا كانت كثيرة فعلا ، أم أنها غير مرتبة بالقدر الذي يجعلها تملؤ المكان .
انثناءات الزوايا العليا في صفحات الكتب المبعثرة ، الأوراق التي تملؤ الملفات والأدراج والحقائب ، الدفاتر التي سال عليها حبر كثير ، مرتب أحيانا ، ومبعثر أحيانا أكثر ،الرسائل التي لاتتعب من انتظاري ،  جهاز التحكم في التلفاز ، قائمة البرامج المسجلة ، صندوق مصباح الطاولة الذي لم أركبه بعد ،  صناديق الأشياء الصغيرة ، أقلام الخط ، عبوات الحبر ، حقائب السفر النصف فارغة ، أكوام الملابس على الشماعة ، وتلك التي تزدحم في الدولاب . البطانية التي لا أعرف كيف أغسلها .
صوت ماهر العقيلي وهو يقرؤ القرآن ، فيروز ، و  مقطوعات الإخوة الجبرانيين الثلاثة ، ساينفلد ، والواقفون الذين يمدون أياديهم إلى رئتيك كي تضحك .
صندوق البريد الإلكتروني الذي يغص بالرسائل التي نويت الإجابة عنها ونسيت ، ونويت الرجوع إليها وأبطأت . وسائط التخزين التي تغص بالصور ،والذكريات الحميمة ، قصاصات الجرائد التي بها بعض مني ، ولا أدري أين وضعتها ، الأوراق المهمة التي تتوزع في المكان كالأقلام الرخيصة .
علب القهوة ، كتب الطبخ . الأواني التي لم تغسل بعد .
نصف الصديق الذي رأيته بجوار نصف صديق آخر ، على رصيف ما في طريقي إلى قهوة وكتاب ، على كرسي حانة يشرب ، ورآني ولم يسلم خجلا . العزاب الآخرون من وطني ، الذين كنت استخدمهم دليلا على أنني يمكن لي أن أعيش بلا زوجة ، و يسقط كل يوم واحد منهم كأوراق الخريف .
أكوام الأيدي المتشابكة في الطرقات ، السيارات الفارهة ، والمشردون على الأرصفة ، وعربات المعوقين بلا أيدي وبلا أرجل وبابتسامات كثيرة  .
وطني الكبير ، الذي يعاملني كمحيط ، وأعامله كخشبة طافية . يختار لي أن أصعد أو أن أهوي  كما يشتهي .
أشياء كثيرة ، كل واحد منها يقود إلى أشياء أكثر ، أفلسف كل شي ء ، وأسرح كثيرا ولا يبدو أنني أستطيع أن أصل إلى شيء ، لا أدري كيف يمكن لي أن أوفق بين ما يدخل إلى عقلي وما يخرج منه ، أنا الذي أذهب إلى عملي صامتا - وأكتشف أنني لم أتحدث  منذ الأمس حينما يخرج صوتي في الاجتماع الصباحي  نائما لم تمرنه ولا حتى كلمة واحدة منذ الأمس  -  وأعود من عملي صامتا ، وأشاهد التلفاز صامتا ، وأركض صامتا ، وأسبح صامتا ، وأبتسم مع التلفاز صامتا ، وأحلق بعيني من النافذة صامتا  . وأرسم صامتا ، وأكتب صامتا .
أرسم الألوان ، المتشابكة ، على لوحات عمودية ، تصنع شرائحا في عقلي. أرسمها مبتسما أحيانا ، وسعيدا بعبقرية الفكرة التي خطرت لي . إلا أنها بعد أن تجمعت ، وتشابكت ، لم يعد يمكن لي أن أميز شيئا مما رسمت .
أفتح عيني على آخرها ، إلى قلب النهر ، أغسل كل شيء . كل شيء .
وأستلقي . أعصر الدماء التي تحمل الأكسجين من عقلي  إلى رئتي . وأتخيل أنني بذلك أمنعها من أن تصل إلى الفروع الدقيقة ،  البعيدة في شجيرات  عقلي ، والشرائح المتشعبة . فتموت .
أنهض  من فوق الحشائش الخضراء على حافة النهر  ، أجدها قد تلطخت بألوان كثيرة ،أندهش لثانية ،
 أمتطي دراجتي مسرعا ً ،
وأهرب .
 
 
أتاوا - يوليو 2008 

ليلة صيفية هادئة


شيطان حزني الصغير




شيطان حزني الصغير . ذلك المارق الفاسق . قصته أطول من أرويها . ما انفك يمارس دهاءه الذي مكنته منه ،  حتى تجبر وطغى ، ككل قصص الحب ذات النهايات الفاجعة  ، والأفواه التي تعض أيادي المحسنين .، والسواعد التي تشتد لترمي معلميها ، واللئام الذين يزيدهم الإكرام لؤما .
كنت صبيا سعيدا ، أقضم فطيرتي في ساحة المدرسة ، مع جمع من الأصدقاء ، نضحك أكثر مما نأكل . ونركض أكثر مما نشبع . لا أذكر متى بالتحديد ، نبت شارب في حديقة وجهي الجديدة ، وأسدلت مسارح الوجوه المألوفة ستائرها السوداء . وابتدأت أشعر بأن أصدقائي يصغرون ، قبل أن أدرك بأنني أكبر أكثر مما يجب .
في مربع عائلتي الصغيرة ، أمي كانت هناك ،تركع علي  لتصنع مني رجلاً ، وكان أخي بجانبي يسحبني معه إلى الأعلى ، وتنحى أبي حتى لا يحدني شيء من أن أنمو رأسيا .
كانت الحياة أسهل مما ينبغي ، في مدرستي الصغيرة . المدرسون كلهم يغرقون علي عبارات الثناء والمدح طوال الوقت . الأسئلة التي لا يجيبها أحد تتوجه إلى كهدية ٍ مغلفة بابتسامة الإعجاب والنصر . مسائل الرياضيات التي يتحدانا المدرس في حلها بأقل من خمسة دقائق ، أحلها في دقيقة ، وأهييء كتفي لكل ما يمكن لغرور طالبٍ أن يحتمل . مواضيع التعبير التي أكتبها ، يدعوني المدرس منتشيا  لقراءتها أمام الفصل في كل حصة .  أطرز التقارير الشهرية بنسب ٍ كاملة . كاملة جداً . لا ينقصها درجة واحدة .الترتيب على الفصل ، الأول . الترتيب على الفصول الأخرى في المرحلة : الأول ، يصافحني المدير كل شهر ، ويمنحني شهادة تقدير ، يتغير الثاني والثالث ، وابقى حيث أنا .   في الطابور الصباحي ، يبحث عني المدرس مسؤول الإذاعة إذا تأخر برنامج ذلك اليوم ، وأعتلي المنصة ، أقرأ قرآنا ، وتصمت المدرسة . في وقت الفسحة ، أقود فريق فصلي لكرة القدم ، أسجل أهدافا ، وتصفق المدرسة . دفاتري تتخاطفها أيدي الطلاب ، والمدرسين الذين يريدون استخدامها في التحضير للسنين القادمة .   إذا أخطأ طالب في الفصل يبدأ المدرس في محاضرة عن الأخلاق والأدب  ، ويوضح أن الأخلاق أهم من الدراسة ، والأدب أهم من العلم ، وأن اجتماعهما غايةٌ صعبة ، لكنها يمكن أن تتحقق . ويستخدمني دليلا . لم أحتج ، ولا مرة واحدة أن أذهب لأبدأ حديثا مع أحد ، كان الناس يأتون إلي ، خرجت من المدرسة وأنا لا أعرف كيف أبدأ حديثا مع شخص لا يعرفني .
أقنعوني بأنني الأول في الدراسة ، والأحفظ للشعر ، والأجود في التعبير ، والأقرأ في القرآن ، والأذكى في الرياضيات ، والأجمل في الخط ، والأمهر في الكرة ، والأكمل في الأدب .
   كان كل شيء ، كل شيء يتآمر ليجعلني الأفضل في المدرسة ، وكانت المدرسة ، هي العالم .
خرجت إلى هذا العالم ، بعقلية النسب الكاملة والأفضلية المطلقة ، كان الكامل عند الآخرين ناقصا لدي ، والرائع جيد ، والجيد مقبول ، والمقبول سيئا ، والسيء جحيماً .  وفي الجانب الآخر من هذه المعادلة الغير عادلة ، وجدت أنني لم أكن الأول ولا الأحفظ ، ولا الأجود ، ولا الأقرأ ، ولا الأذكى ، ولا الأجمل ولا الأمهر ولا الأكمل . فخرجت بنوعين من الحزن ، حزن ٌ مرفه ، يفترض بالعالم نقصا ، لا يرونه  فأزيد رفاهية . وحزن موجع يفترض النقص في ذاتي ، لا يرونه فأنقص حزنا .
وابتدأت الخيبات تنهشني في تآمرٌ عجيب . ابتداءا بالخيبات السخيفة ، من نوع أن لا تنظر إلى عينيّ المراهقتين فتاة أنظر إليها، أو أن لا أحقق الثناء بالقدر الذي أتوقعه  ، مرورا بخيبات أكبر كأن يتضايق مني أحد . لا أ دري كيف أصبح تضايق شخص مني حدثا عظيما ، لم أتعلم يوما كيف يمكن لي أن أضايق أحدا ً ، في عالمٍ يتضايق فيه الناس من أنفسهم . ولم أدرك حتى اليوم كيف يمكن لأحدٍ أن يضايقني ، ويعلم ذلك ، ويستل كل ما يملك من أسلحة ، ولا يتوقف حتى أرحل بعيدا ، إلى حيث لا يمكن للأسلحة أن تصل .  تعلمت أن الناس مختلفون ، مختلفون بصورة مفجعة ، وأنه لا يمكن لك أن تتعامل مع الجميع بطريقة واحدة . تعلمت أن هناك مرضى وأصحاء ، وأن الحدود الفاصلة بينهما ليست بالوضوح الذي نتوقعه .
وجاءت خيبات أكبر ، تتعلق بالعالم ، وخيبات أكبر من أي شيء  تتعلق بالناس .  وجاء شيطان حزني الصغير ، يحمل ورقة وقلما ، وقهوة يدعوني لأن نرتشفها سويا .  كان كريما معي . وشعرت أنه لا خيبة معه ، إذ أنه هو بذاته خيبة أختارها لتقيني من الخيبات التي تلبس لباس الفرح . وشعرت بأنه ربما آخر الأصدقاء الذين يأتون هم ليتحدثون معي .  وكان شيطانا لطيفا ، خليق بأن يجنبني محاولة بداية حديث مع أحد .
وابتدأ شيطاني الصغير يتشكل كما يحلو له ، ولي . يعصر نفسه في فنجان قهوة أشربها وحيدا ، وأبتسم . يتمدد طوليا ليدخل في قلم، فأسكبه شعرا ، يجلس مقابلي على كنبة وثيرة ، يفلسف العالم ، ويعتذر بين كل جملتين مره ، لأنه يدرك أن الناس لا يرحبون به كثيراا ، فأهون عليه ، وأستمع ، وتنفرج أساريره ويتحدث ، يتشكل على هيئة امرأة جميلة  ، أقضي معها ليلة طويلة ، لنتحدث ، كانت صحبة جميلة ، راقية ، صحبة اختيارية  مرفهة. لكنه  بعدأن ابتدأ بإزالة الكلفة بيننا ، أصبح يحط على كتفي كقرد ، فينظر الناس إلىّ مستغربين . ابتدأ بزيارتي بدون أن أدعوه ، والدخول دون أن يستأذن .  انتبهت مرة إلى كفيه فوجدته يسد أذني حتى لا أسمع هاتفي ، بل رأيته مره يحمل مقصا و  يهم بقص أسلاك الهاتف . كنت أصبر منه على ذلك ، فأنا لا أستطيع أن أضايق أحدا ساعدني  حتى و لو كان شيطانا !
حتى جاء ذلك اليوم ، قضيت معه وقتا أكثر مما ينبغي لنا  ،اقتربت منه أكثر مما يجب ، وفجأة ، استبد به الهياج ، فانقض على رقبتي ليخنقني . فتحت عيني على آخرها ، دفعته مذعورا ، لقد أسأت فهمي أيها الشيطان الفاسق ، أنا لا أريدك هكذا  .  تناولت عفريتة السعادة من شنطة سيارتي ، وهويت بها على رأسه ، لم أتركه حتى تفتت على الرصيف ، خرج من فتاته حبر أقلام ، ولحية بيضاء  لحكيمٍ عجوز ، ونظارة سوداء كان يلبسنيها لأرى العالم ، ونظارة كحلية تجعلني أرى كم الابتسامات الصافية التي أتلقاها كل يوم ، معتمة ، ونظارة مصمتة ، بثقب ٍ وحيد تستثني كل الناس الطيبين ،وأرى من خلالها بضع من السفلة، ونظارة بعدسة مكبرة ، ومرآة  لا ترى سوى العيوب  ، ومساحيق تجميل كثيرة كان يضعها ، ونسخة طبق الأصل لقلبي ، مكسورة بأكثر من زاوية ، وورقة صفراء قديمة   بأرقام معاونيه  من البشر ، وأنصاف البشر ، وكيس بصل !
قاتلك الله يا شيخ  !
...
 
 
اليوم ، أستقبل الصباح الهاديء الماطر ، عائدا من  مناوبتي الطويلة .
 متصالح جدا مع ذاتي ، لست الأفضل كما كانوا يقولون لي ، لكنني أفضل مما كنت أتوقع ، مازلت أحصل على الثناء ، ثناء بالقدر الذي يجوز أن يحصل عليه طبيب سعودي يعمل في كندا ، أتذوق حلاوة أحاديث عربية باسمة في ممرات المستشفى لها طعم التمر ، أستطيع اليوم أن أضايق أحدا بالقدر المحترم  إن هو ضايقني ، أستقبل ترحيبا ، يضيق بعبارات الشكر الخجلى من زوج مريضة تابعتها ، في ممرات وول مارت .
 أسباب تجبّر شيطاني ، أعلمها جيدا ، ولا يعلمها أحد ، ولا يحسها أحد ، كنت أعلم جيدا أنني قد أبدو مبالغا ، لكنني الوحيد في هذا العالم ، الذي يعرف أنني لم أبالغ في شيء  ، أنا فقط قررت أن أصبح أكبر من حزني ، وانا وحدي أعلم كم من الحجم أحتاج لمثل هذا .
فراغات الأصدقاء ، مازال بعض منها شاغرا ، لكنني لم أعد أحتاج إلى شياطين لملئها  ،العتبات مازالت عالية ، لكنني أفتح نوافذ أقل ارتفاعا ، تجعلني أنحني ولا أركع . وأقترب ولا أمس ، والأهم ، أبتسم .  
انتبهت إلى أنني مازلت أحصل  على ابتسامات الإعجاب ، لكن ليس بالقدر الذي يحصل عليه طالب مدرسة ، ولا بالقدر الذي يحصل عليه رئيس وزراء موزمبيق في بلده . ربما بالقدر الذي يحصل عليه رئيس وزراء موزمبيق في كندا ، وربما أكثر قليلا  .
صديقي البليغ ، يختصر كل ثرثتي الطويلة ، ويسمي نفسه : رئيس وزراء موزمبيق : ) وبما أنه أذكى مني ،وبما أنه لم يعد من إجازته الطويلة في الرياض بعد،  سأسمي نفسي نائب رئيس وزراء موزمبيق ، أو حتى رئيس وزراء موزمبيق ، وأعمل انقلابا لا يحفل به أحد هنا ..
التوقيع :
متعب جاد الحق ،
نائب رئيس وزراء موزمبيق .
أتاوا، 31 مايو، 2008