شيطان حزني الصغير . ذلك المارق الفاسق . قصته أطول من أرويها . ما انفك يمارس دهاءه الذي مكنته منه ، حتى تجبر وطغى ، ككل قصص الحب ذات النهايات الفاجعة ، والأفواه التي تعض أيادي المحسنين .، والسواعد التي تشتد لترمي معلميها ، واللئام الذين يزيدهم الإكرام لؤما .
كنت صبيا سعيدا ، أقضم فطيرتي في ساحة المدرسة ، مع جمع من الأصدقاء ، نضحك أكثر مما نأكل . ونركض أكثر مما نشبع . لا أذكر متى بالتحديد ، نبت شارب في حديقة وجهي الجديدة ، وأسدلت مسارح الوجوه المألوفة ستائرها السوداء . وابتدأت أشعر بأن أصدقائي يصغرون ، قبل أن أدرك بأنني أكبر أكثر مما يجب .
في مربع عائلتي الصغيرة ، أمي كانت هناك ،تركع علي لتصنع مني رجلاً ، وكان أخي بجانبي يسحبني معه إلى الأعلى ، وتنحى أبي حتى لا يحدني شيء من أن أنمو رأسيا .
كانت الحياة أسهل مما ينبغي ، في مدرستي الصغيرة . المدرسون كلهم يغرقون علي عبارات الثناء والمدح طوال الوقت . الأسئلة التي لا يجيبها أحد تتوجه إلى كهدية ٍ مغلفة بابتسامة الإعجاب والنصر . مسائل الرياضيات التي يتحدانا المدرس في حلها بأقل من خمسة دقائق ، أحلها في دقيقة ، وأهييء كتفي لكل ما يمكن لغرور طالبٍ أن يحتمل . مواضيع التعبير التي أكتبها ، يدعوني المدرس منتشيا لقراءتها أمام الفصل في كل حصة . أطرز التقارير الشهرية بنسب ٍ كاملة . كاملة جداً . لا ينقصها درجة واحدة .الترتيب على الفصل ، الأول . الترتيب على الفصول الأخرى في المرحلة : الأول ، يصافحني المدير كل شهر ، ويمنحني شهادة تقدير ، يتغير الثاني والثالث ، وابقى حيث أنا . في الطابور الصباحي ، يبحث عني المدرس مسؤول الإذاعة إذا تأخر برنامج ذلك اليوم ، وأعتلي المنصة ، أقرأ قرآنا ، وتصمت المدرسة . في وقت الفسحة ، أقود فريق فصلي لكرة القدم ، أسجل أهدافا ، وتصفق المدرسة . دفاتري تتخاطفها أيدي الطلاب ، والمدرسين الذين يريدون استخدامها في التحضير للسنين القادمة . إذا أخطأ طالب في الفصل يبدأ المدرس في محاضرة عن الأخلاق والأدب ، ويوضح أن الأخلاق أهم من الدراسة ، والأدب أهم من العلم ، وأن اجتماعهما غايةٌ صعبة ، لكنها يمكن أن تتحقق . ويستخدمني دليلا . لم أحتج ، ولا مرة واحدة أن أذهب لأبدأ حديثا مع أحد ، كان الناس يأتون إلي ، خرجت من المدرسة وأنا لا أعرف كيف أبدأ حديثا مع شخص لا يعرفني .
أقنعوني بأنني الأول في الدراسة ، والأحفظ للشعر ، والأجود في التعبير ، والأقرأ في القرآن ، والأذكى في الرياضيات ، والأجمل في الخط ، والأمهر في الكرة ، والأكمل في الأدب .
كان كل شيء ، كل شيء يتآمر ليجعلني الأفضل في المدرسة ، وكانت المدرسة ، هي العالم .
خرجت إلى هذا العالم ، بعقلية النسب الكاملة والأفضلية المطلقة ، كان الكامل عند الآخرين ناقصا لدي ، والرائع جيد ، والجيد مقبول ، والمقبول سيئا ، والسيء جحيماً . وفي الجانب الآخر من هذه المعادلة الغير عادلة ، وجدت أنني لم أكن الأول ولا الأحفظ ، ولا الأجود ، ولا الأقرأ ، ولا الأذكى ، ولا الأجمل ولا الأمهر ولا الأكمل . فخرجت بنوعين من الحزن ، حزن ٌ مرفه ، يفترض بالعالم نقصا ، لا يرونه فأزيد رفاهية . وحزن موجع يفترض النقص في ذاتي ، لا يرونه فأنقص حزنا .
وابتدأت الخيبات تنهشني في تآمرٌ عجيب . ابتداءا بالخيبات السخيفة ، من نوع أن لا تنظر إلى عينيّ المراهقتين فتاة أنظر إليها، أو أن لا أحقق الثناء بالقدر الذي أتوقعه ، مرورا بخيبات أكبر كأن يتضايق مني أحد . لا أ دري كيف أصبح تضايق شخص مني حدثا عظيما ، لم أتعلم يوما كيف يمكن لي أن أضايق أحدا ً ، في عالمٍ يتضايق فيه الناس من أنفسهم . ولم أدرك حتى اليوم كيف يمكن لأحدٍ أن يضايقني ، ويعلم ذلك ، ويستل كل ما يملك من أسلحة ، ولا يتوقف حتى أرحل بعيدا ، إلى حيث لا يمكن للأسلحة أن تصل . تعلمت أن الناس مختلفون ، مختلفون بصورة مفجعة ، وأنه لا يمكن لك أن تتعامل مع الجميع بطريقة واحدة . تعلمت أن هناك مرضى وأصحاء ، وأن الحدود الفاصلة بينهما ليست بالوضوح الذي نتوقعه .
وجاءت خيبات أكبر ، تتعلق بالعالم ، وخيبات أكبر من أي شيء تتعلق بالناس . وجاء شيطان حزني الصغير ، يحمل ورقة وقلما ، وقهوة يدعوني لأن نرتشفها سويا . كان كريما معي . وشعرت أنه لا خيبة معه ، إذ أنه هو بذاته خيبة أختارها لتقيني من الخيبات التي تلبس لباس الفرح . وشعرت بأنه ربما آخر الأصدقاء الذين يأتون هم ليتحدثون معي . وكان شيطانا لطيفا ، خليق بأن يجنبني محاولة بداية حديث مع أحد .
وابتدأ شيطاني الصغير يتشكل كما يحلو له ، ولي . يعصر نفسه في فنجان قهوة أشربها وحيدا ، وأبتسم . يتمدد طوليا ليدخل في قلم، فأسكبه شعرا ، يجلس مقابلي على كنبة وثيرة ، يفلسف العالم ، ويعتذر بين كل جملتين مره ، لأنه يدرك أن الناس لا يرحبون به كثيراا ، فأهون عليه ، وأستمع ، وتنفرج أساريره ويتحدث ، يتشكل على هيئة امرأة جميلة ، أقضي معها ليلة طويلة ، لنتحدث ، كانت صحبة جميلة ، راقية ، صحبة اختيارية مرفهة. لكنه بعدأن ابتدأ بإزالة الكلفة بيننا ، أصبح يحط على كتفي كقرد ، فينظر الناس إلىّ مستغربين . ابتدأ بزيارتي بدون أن أدعوه ، والدخول دون أن يستأذن . انتبهت مرة إلى كفيه فوجدته يسد أذني حتى لا أسمع هاتفي ، بل رأيته مره يحمل مقصا و يهم بقص أسلاك الهاتف . كنت أصبر منه على ذلك ، فأنا لا أستطيع أن أضايق أحدا ساعدني حتى و لو كان شيطانا !
حتى جاء ذلك اليوم ، قضيت معه وقتا أكثر مما ينبغي لنا ،اقتربت منه أكثر مما يجب ، وفجأة ، استبد به الهياج ، فانقض على رقبتي ليخنقني . فتحت عيني على آخرها ، دفعته مذعورا ، لقد أسأت فهمي أيها الشيطان الفاسق ، أنا لا أريدك هكذا . تناولت عفريتة السعادة من شنطة سيارتي ، وهويت بها على رأسه ، لم أتركه حتى تفتت على الرصيف ، خرج من فتاته حبر أقلام ، ولحية بيضاء لحكيمٍ عجوز ، ونظارة سوداء كان يلبسنيها لأرى العالم ، ونظارة كحلية تجعلني أرى كم الابتسامات الصافية التي أتلقاها كل يوم ، معتمة ، ونظارة مصمتة ، بثقب ٍ وحيد تستثني كل الناس الطيبين ،وأرى من خلالها بضع من السفلة، ونظارة بعدسة مكبرة ، ومرآة لا ترى سوى العيوب ، ومساحيق تجميل كثيرة كان يضعها ، ونسخة طبق الأصل لقلبي ، مكسورة بأكثر من زاوية ، وورقة صفراء قديمة بأرقام معاونيه من البشر ، وأنصاف البشر ، وكيس بصل !
قاتلك الله يا شيخ !
...
اليوم ، أستقبل الصباح الهاديء الماطر ، عائدا من مناوبتي الطويلة .
متصالح جدا مع ذاتي ، لست الأفضل كما كانوا يقولون لي ، لكنني أفضل مما كنت أتوقع ، مازلت أحصل على الثناء ، ثناء بالقدر الذي يجوز أن يحصل عليه طبيب سعودي يعمل في كندا ، أتذوق حلاوة أحاديث عربية باسمة في ممرات المستشفى لها طعم التمر ، أستطيع اليوم أن أضايق أحدا بالقدر المحترم إن هو ضايقني ، أستقبل ترحيبا ، يضيق بعبارات الشكر الخجلى من زوج مريضة تابعتها ، في ممرات وول مارت .
أسباب تجبّر شيطاني ، أعلمها جيدا ، ولا يعلمها أحد ، ولا يحسها أحد ، كنت أعلم جيدا أنني قد أبدو مبالغا ، لكنني الوحيد في هذا العالم ، الذي يعرف أنني لم أبالغ في شيء ، أنا فقط قررت أن أصبح أكبر من حزني ، وانا وحدي أعلم كم من الحجم أحتاج لمثل هذا .
فراغات الأصدقاء ، مازال بعض منها شاغرا ، لكنني لم أعد أحتاج إلى شياطين لملئها ،العتبات مازالت عالية ، لكنني أفتح نوافذ أقل ارتفاعا ، تجعلني أنحني ولا أركع . وأقترب ولا أمس ، والأهم ، أبتسم .
انتبهت إلى أنني مازلت أحصل على ابتسامات الإعجاب ، لكن ليس بالقدر الذي يحصل عليه طالب مدرسة ، ولا بالقدر الذي يحصل عليه رئيس وزراء موزمبيق في بلده . ربما بالقدر الذي يحصل عليه رئيس وزراء موزمبيق في كندا ، وربما أكثر قليلا .
صديقي البليغ ، يختصر كل ثرثتي الطويلة ، ويسمي نفسه : رئيس وزراء موزمبيق : ) وبما أنه أذكى مني ،وبما أنه لم يعد من إجازته الطويلة في الرياض بعد، سأسمي نفسي نائب رئيس وزراء موزمبيق ، أو حتى رئيس وزراء موزمبيق ، وأعمل انقلابا لا يحفل به أحد هنا ..
التوقيع :
متعب جاد الحق ،
نائب رئيس وزراء موزمبيق .
أتاوا، 31 مايو، 2008