السبت، 17 أبريل 2010

صناديق وأرانب ....


















لا أعرف ما الذي يزعجني أكثر ، الأشياء التي لا أملك لها صناديقا ، أم الصناديق التي لا أملك لها أشياءا. فكرة تكديس صناديق فارغة تبدو أكثر إغراءا الآن من أي وقت مضى ، الأفكار التي لا تنتهي ، تلك التي كنت أظن أنني سأجد صندوقا يحويها ، تتحول إلى صناديق ، واستحال ملؤها إلى مهمة مستحيلة لا تنتهي

أفضل ما يمكن فعله الآن وضع خريطة هرمية للصناديق ، واختراع أبعادٍ أخرى تخصني ، غير الطول والعرض ، والوزن طبعا. مهمة شاقة أخرى ، لكنني إذا استطعت فعلها دون قطع صناديق كثيرة إلى قطعتين لكي أستطيع أن أضعها في مكانين مختلفين في نفس الوقت ، إذا استطعت فعل ذلك ، سأتمكن من مد قدمي على الكنبة الطويلة ، واصطياد الأفكارفكرة ، فكرة ، ومن ثم أستطيع أن أكورها ، وأرمي بها في الصندوق المناسب.
وقتها ستتلهف الأشياء على الصناديق لترتمي في أحضانها ، وتتلهف الصناديق على الأشياء ، وقتها أستطيع أن أترك الأفكار تتوالد كأرانب دون أن أفكر في الأقفاص التي ستحويها . وقتها ، أستطيع - كما فعلت صباح اليوم - أن أكوي بنطالي الرمادي في خمس دقائق ، وأفكرباسما في كم من الدقائق سأوفر لو كنت أقصر بخمسة إنشات
وقتها، سأستطيع أن أخرج خفيفا للركض بجوار النهر ، أفتح فمي لأشرب المطر كما كنت أفعل في بيت جدي قبل عقدين من الزمن ،وقتها سأغسل الأطباق كست بيت محترمة ، لا كخادمة تريد أن تنتهي من عملها ، بأسرع ما يمكن ، سأستطيع أن أترك الشاي يغلي مع الحبق لعشر دقائق كاملة ، وقتها سأتناول كتابا عشوائيا من مكتبتي لأقرأه قبل أن أنام ، وأقهقه على كل النكت بالغة الظرف ، وبالغة السخافة اللذيذة ، ولن أهتم في أي صندوق ستنام تلك الليلة ، كل الصناديق تستطيع استعمال القليل من السخرية

وقتها ، لن أمنع نفسي من الاستطراد في التفكير في اختلافات البشر ، حينما قال لي المريض الذي رأيته في الخامسة مساء هذا اليوم ،بأنني محظوظ ، لأنني سأذهب لأتناول عشاءا شهيا في بيتي مع أهلي بينما يقطن هو في المستشفى ، وجاوبته باسما بأنني مناوب لأربع وعشرين ساعة اليوم ، كنت أوشك أن أخبره ، بأنني رأيت مريضا آخر قبل سنة ، بحالة أخطر من حالته ، قال لي في نفس الوقت من المساء ، وهو يحدق بي وأنا أكتب شيئا من أجله : " ألا يجدر بك أن تكون على كرسي مطعم ما في الهواء الطلق ، في مثل هذا الجو الجميل " ؟
كنت أوشك أن أخبره ، بأنني لن أتناول عشاءا شهيا اليوم ، وأن زوجته الباسمة الى جواره تصنع له بيتا في عينيها ، لا أدرك لماذا لا يستطيع أن يراه، كنت أوشك أن أخبره ، بأنني حتى أتناول عشاءا شهيا في بيتي مع أهلي يلزمني أن أقطع سبعة آلاف ميل ، وأقلب صفحات التقويم صفحتين ، وأدفع ثلاثة أضعاف ما سيدفعه هو للجهاز الذي يساعده على النوم ، ولم يرد أن يشتريه بنقوده
كنت أوشك أن أخبره ، بأن صندوقه الوحيد الذي يكدس به الأشياء و يقارن به كل صناديق المارة التي يتخيلها على حقيقة غير حقيقتها ، ثقيل ، وربما يجدر به أن يوزع أشياءه على صناديق أخرى ولو كانت فارغة إلى حين ، كنت أوشك أن أخبره ، بأن الصندوق الذي أحضره معي إلي المستشفى لا يعبر بالضرورة عن الصناديق التي أملكها ، كنت أوشك أن أخبره ، بأن عليه أن ينشغل بصناديقه بدلا من التحديق في صناديق الآخرين
كنت أوشك أن أخلع طاقية الطب التي ألبسها، وطاقية العمر التي تلبسني ، وألبس عمامة حكيم عجوز ، وأطلق لحية بيضاء ، وأخبره ، هو الذي يكبرني بأربعين سنة ، بأن ،تفكيره في كم هو بائس مقارنة بالآخرين سيجعله فقط ، أكثر بؤسا، بأن الحياة التي يعلم عن قصرها أكثر مما أعلم ، قصيرة
..
الخريطة الهرمية التي لم أصنعها بعد ، تترك الكثير من الأرانب تتقافز في ممرات المستشفى ، دون أن يراها أحد ، كما تفعل كل يوم ، لا أستطيع أن أفكر في مكان يليق بها ، تلك الأرانب الغير مرئية ، تلك الكائنات الشفافة بلا وزن، تلك الأرانب التي تكبر لتصبح صناديقا ! لا أستطيع أن أتخيل لها مكانا أفضل من الصناديق (الفارغة)

أتاوا
April 2010