السبت، 24 ديسمبر 2011

كريسمس سعودي في كندا، بطاولتين






تتجاهلني المدينة ، دون أن تقصد. تغلق جميع الأبواب. أقف خارجها لأفكر كيف يشعر الغرباء في يوم عيدنا في الرياض.

أغازل أطراف مشهد الكريسمس بعبارات لا أعرف ماذا تعني بالضبط ، يقولونها لي وأمضعها لألقمها لهم مجددا خالية من كلمة الكريسمس ليرضى ذلك الطفل الذي علموه بأنه لا تجوز معايدة أهل الكتاب بأعيادهم. "أيام مقدسة مباركة" ، أو كما سأدعي لو حاجّني أحد ، إجازة سعيدة. أعابث الأطراف ولا أتوغل في المشهد. أسمع العبارات باهتة من الداخل البعيد، وأظن جازما بأنهم يسمعون عباراتي المبتسمة باهتة بعيدة من رجل يتفرج عليهم دون أن يدلف الى الداخل.

الليلة ليلة الكريسمس. تطفئ المدينة أنوار الشوارع.تلمها، مصباحا مصباحا، لتخبئها في البيوت. كأصابع جدتي حينما تعبث بالسجادة، وتلمّ وبَرَها في لحظات سهوها أثناء حديثٍ هاتفي، تلمّها من المنتصف، وتوزعها على الأطراف. تتخبؤ الأنوار في الأطراف قادمة من المنتصف كتَلٍّ تبعثره ريح عاتية يصفق لها الناس، يتهيؤون لقدومها، ينتظرونها بشوق. وتقف أنت أيها الغريب هناك، لا تصفق لشيء، تبارك لهم قدوم الريح، و لا يهمك من الموضوع سوى ذلك التل الذي اختفى فجأة وتركك في صحراء موحشة.

تهيم باحثا عن قهوة لم تغلق أبوابها. عن مكان مضاء كشجرة. عن لسان يلعق بكلماته غبار وحشتك.عن طريق. 

تبحث عن وطنك الذي مر عيده الذي يعنيك وانتهى ، تود أن “تحتفل” معه بيوم عادي ، تفتش عنه على أوجه الشاشات الملساء، تفكر أنه كلما زادت هذه الشاشات نقاوة كلما أرعبتك تفاصيل وجهه ذلك الذي حسبته جميلا حينما رأيته بشاشات قديمة. تبحث عن نفسك بين الوطن الذي لا يعنيك، ويستثنيك من الفرح، والوطن الذي يعنيك، ويبعثك على الحزن. تفكر في خطأ أن تفكر في أن العشب على الجهة الأخرى أكثر اخضرارا. وتود أن تحلف - للائميك المحتملين، المصطفين في زاوية عقلك كهيئة محلفين- بأنك لم تنتبه حتى لدرجة اللون، أنت فقط مشغول بإيجاد تربة خصبة تصلح للزراعة، لتلوم نفسك بعدها على كل قشة عشب صفراء، إن لم تفلح في زراعة عشب أخضر كما ينبغي. كرجل يقف على طاولتين ظنهما متلاصقتين كطاولة واحدة، كلما نظر إلى الأسفل وتعلم أكثر عن تفاصيل الاختلاف، كلما زحفتا الطاولتان عن بعضهما ، يتصرف خط المنتصف بينهما كعملاقٍ ضَجِرْ، لسنوات وهما تتحركان بخفية. تتمدد رجلاك بزاوية منفرجة، تشعر بأنك قد اقتربت جداً من اللحظة التي ستحتاج بها أن ترمي بثقلك كله في أحد الاتجاهين. تتذكر ما قرأته يوما لكاتب إيطالي يحدّث بأن أباه دوما ماكان يقول له بأن الذي يجلس بين كرسيين ، يسقط بينهما. لم يقل شيئا عن الذي "يقف على طاولتين"، هل ستكون سقطته موجعة أكثر، أم سيتمكن من التحكم بها واتقائها بصورة أفضل؟.

رحل أبي قبل سنتين دون أن يخبرني ما الذي سيحصل حينما أقف على طاولتين. ترك الطاولة اليمنى، التي كثيرا ما ألتفت إليها فأجد جالسا هنا قد غادرها، وجالسا يتذمر منها هناك ، وجالسا يسرقها،وجالسا يتكيء بكفيه عليها ويسترق النظر ليغادر، ومجموعة من الجلوس يعالجون مساميرها وقواعدها، كأنهم سيأخذونها في حقيبة ويرحلون. أخشاب الطاولة اللامعة على اليسار، تجذبني الآن، لكنني أعلم أنني سأشتاق للطاولة اليمنى، التي أشتاق إليها الآن وأنا على مسافة ساقٍ مشدودة.

سأتساءل كثيرا،وأنا أمتليء بالحنين ليوم أبتسم فيه، وأتمتم: قد آن لي الآن أن "أثني" رجلي.



أتاوا
٢٤- ديسمبر-٢٠١١

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

كرات في الهواء، وعداء، وبائع ذرة !




الحقيقة أنني تعبت. تعبت كثيرا. كرات سعادتهم التي تندفع من زنبركات يدي، أصبحت أكثر مما أستطيع أن أحمل. أفكر، في أن أرحل. وهي ما زالت في الهواء، أوجه ظهري نحوها، وأمضي في طريقي، كبهلوان، قرر في لحظة أن يغير وظيفته.
الحقيقة أنه ليس ثمة زنبركات في يدي، وأنني كنت أكذب طوال الوقت. الطفل الذي كنته، حينما كان مراهقا، في ليلة كسولة ما، قال لي ، هل تستطيع أن تسعد شخصا عندما تكبر ؟ قلت له: نعم ، بالتأكيد. قال لي: هل يمكنك أن تسعد شخصين إذن. قلت له أظن، ضحك ساخرا، وماانفك يذكر رقما أكبر في كل مرة، وأنا ازداد شكا، وفي مرحلة ما في المنتصف، قال رقما ، لا أذكره بالضبط، لكنني أدركت أن النقاش أصبح سخيفا، وتوقفت عن الرد. لم يتوقف هو عن الحديث إن كنت أتذكر جيدا، تجاهلته ، وأكملت صنع الدوائر في دفتر كنت قد كتبت على غلافه "دفتر خرابيش" ، أذكر، وقد أكون مخطئا هنا أيضا، أن آخر ماقاله ، كان هل تستطيع، بذمتك، أن تسعد كل من تقابله؟
رمى تلك الجملة، كبقعة حبر هندي ، على ثوب عقلي الأبيض. وما فتئت بعدها، أحمَل نفسي، كرات سعادة كثيرة، أتفنن في القاءها في الهواء، وأحتضنها في طريقها الى الأرض، لكنني الآن أود أن أرحل، أن أتوقف، عملت تقريبا، كل المعجزات التي يمكنني عملها. يداي منهكتان.و عيناي تؤلمانني، وأفكر في أن أتحول إلى كرة.
كعداء، تتغير ملامح وجهه فجأة في منتصف المضمار، يتوقف، يغير الاتجاه الذي يحدق به، يلتفت حتى لا يعيق العدائين الآخرين، يتحول فجأة إلى بائع ذرة وجد نفسه داخل المضمار، يخرج من الخطوط المنحنية المنظمة، يخلع حذاءه، ويذهب ليعيش.

اتاوا
نوفمبر ٢٠١١

الأحد، 13 مارس 2011

الفتنة النائمة



عزيزتي الفتنة،
يقولون أنك نائمة. أقف على حافة سريرك،أراك تكومين أطرافك بوضع لا يصلح للنوم، أتطلع الى رقبتك الملتوية، نومك بهذه الطريقة المفجعة ينذر بكارثة حينما تصحين!. أحاول أن أتحدث معك بصوت خفيض، قبل أن يشعر أحدهم بأنني أحاول إيقاظك فيلعنني. هم يريدونك أن تصحين مفزوعة على صراخ، وجلبة، وقتل. ماذا لو استمتعت إلي، أحدثك بلطف، فتفتحين عينيك، تنظرين الى الحاضرين، تهزين رأسك في رضا يدل على أنه لا بأس في أن يقفوا إلى جانب بعضهم، تلتفتين إلى يسارك، ويمينهم، تقطبين حاجبيك في اتجاه الواقفين هناك، مشيرة إلى أنه لا بأس من أن يتضايق الناس ممن يتسلط عليهم، ويسرق أموالهم، وأنك عادلة، تغضبين بحزم، وعقل، وأنك لن تصرخين كالمسعورة، وتنفثين النار كتنّين في كل مكان.
نومك بهذه الطريقة يوحي بأنك لم تخلدي إلى النوم مختارة، وأن أحدهم، لسبب ما، حاول (إخمادك) كما يقول هو قاصدا أنك كنت نارا تستعر لسوء في ذاتها هي، أو حاول (إخمادك) كما تُخمد الطلقة جسد أرنب، الأرنب، الذي يرسله "صياد" كسول قبل أن يلحقه بطلقاته. السؤال الذي يجدر به، أن يشغل الناس الآن قبل أن يتشاغلوا بنومك، وصحوك، هو: مالذي أتى بك هنا على أية حال؟ إن كان الحق، واضحا، والشر واضحا، مالذي جعلك منذ تاريخ قديم لا يعرفه أحد، تنامين كمتسلل يستلقي على حدود تفصل بين بلدين مختلفين، ويرقبه الجميع بخوف. لا يفكر أحد بأن ينغزه ولو فعلوا لربما اكتشفوا بأنه خيال مآته.
هناك من يهمه أن نخاف منك. هناك من يضع صور العمائم بين أوجه الغاضبين، ليشعرنا بأنك مجنونة تتحدث حتى وهي نائمة فماذا لو صحت. عزيزتي الفتنة، تحدثي! أتعلمين سكوتك هذا هو بالضبط ما يجعل الجميع يعتقد أنك لا تتكلمين دون أن تحدثين كارثة، فكما أستطيع استخدام سكوتك كدليل على نومك المفتعل، ووجودك الكاذب، يستخدمونه ليثبتون أنه ما إن يتحرك جفنيك صعودا حتى يبدأ العالم بالاحتراق. يظنونك جبارا نائما، وأظنك دمية محشوة بالقطن، إذ لا رقبة لشيء من دم ولحم،يصحى وينام، تنعكف بهذه الطريقة. أظنك لا تتحركين بلا أياد تقرص قماشك ، تعريفك يقتضي بأنك من صنع الناس،لا كيانا قائما بذاته، ومع ذلك يتحدثون عنك كقوة تأتي من مكان غريب، ككائن خرافي، كبركان خامد، يتفجر حينما يوقظه شقي ملعون.
عزيزتي الفتنة، سواء كنتِ نائمة، أو دمية مستلقية، لا أظن أن تركك بهذه الوضعية المزعجة يخدم أحدا سوى الواقفين على يميننا ويسارك. ربما تفيقين على صراخ يسد الأفق، وربما تستلقين هناك إلى الأبد، تقرص قماشك المهتريء البشع أياد مختلفة تخيف بك البلاد والعباد. منذ أول يد وضعتك كحديث ضعيف، ولم يتساءل أحد لماذا يوضع مثل هذا الحديث على الرسول. على أية حال لا يجدر بي أن أطيل الوقوف هنا، سأذهب قبل أن يلعنونني.*
* في حديث ضعيف: " الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها"
أتاوا-
مارس ٢٠١١















السبت، 5 مارس 2011

أية احتمالات تنتظرك حينما تدس كف اللغة في قبعة عقلك


أريد أن أكتب.
شيء يشبه الحمى يهبط علي. يجعلني أرتعش، أشعر بالدوار، وأوشك على السقوط إلى حفرة سحيقة. لا أستطيع أن أتعامل معه بأي طريقة. سوى أن أفتح نافذة جهازي. أمد أصابع يدي الاثنتين فوق لوحة المفاتيح دون أن تلمسها، وكأنني أمارس سحرا لا أتذكر أين تعلمته ، تهبط أصابعي مرتعشة في البداية، تمر الدقائق، تبدؤ ألوان الأفكار في الانسياب ، لونا، لونا، في كأس يمتلئ بمياه القلق. تغمض المياه عينيها ، دون أن يراها أحد، تمد قدميها، يبدؤ صداعها بالاختفاء، تلقي بثقلها على الألوان وكأنها تسبح فوقها، في علاقة غريبة لا تتكرر كثيرا، جسد المياه القلق، يسبح فوق الألوان التي ظنت أنها تسبح فوق الماء. علاقة تشبه أن تكتشف أن البحر يحتاجك حتى يسبح فوقك بعد أن ظننت أنه لا يحتاج أحدا.
لسبب ما، بعتقد الناس أن البحر بإمكانه أن يتحمل أي شئ، وأنه لا يريد شيئا على الاطلاق. يحمل سفينة هنا، ويسليَ أطفالا هناك، ويصنع مساكنا لبضعة مليارات من الأحياء، ويستقبل أطنانا من القمامة دون أن يشتكي. يهدر، ولا يعرف أحد ماذا يقول، يرسل أمواجه لتلعق أرجل المارة دون أن يلتفت منهم أحد. تعود تلك الرسل جميعها، مطأطئة ً رؤوسها تفسح المجال لرسل آخرين لا يفلح منهم أحد. وحينما "يبلغ السيل الزبى"، يرسل أمواجا غاضبة، قد تلفت انتباه الناس، ،ولكن ليس ثمة أحد يستطيع أن يفهم ، ماذا يريد البحر أن يقول. أية وحدة أشد من هذه ؟؟
أسلي نفسي بتذكر وحدة البحر حينما أتذكر وحدتي. أنا الذي لا أعرف كيف أرسل أمواجا غاضبة، ولا أريد لها أن تلعق شيئا أو يلعقها شيء، أن يسبح فيها أحد، أو تسبح فوق أحد. لا أملك سوى اللغة،هي الموج، وهي الريح، أحاول أن أنفخها بعيدا في عرض البحر الواسع بعيدا عن الشاطيء، كما يفعل البحر متذرعا بحيتانٍ لا تملك لغة لتفند ادعاءات البحر، ولا موجا لتغضب. لا أملك سوى ثمانية وعشرين قطعة، بسبب معجزة عظيمة جدا يسمونها اللغة، تستطيع أن ترصف هذه القطع بجانب بعضها في وحدات صغيرة، لتصنع ما يعتقد البعض بأنه سبعة ملايين وحدة، ثم تختار من هذه الوحدات ما ترصفه، وحدة ،وحدة، إلى جانب بعضها في تركيبات معقدة، مختلفة، لتجعل الأعين التي تمر فوقها، تضحك، تبكي، تغيّر حياتها،تتعلم ،تنمو، تنحرف،تغضب، تنشرح،تشعر بالاشمئزاز، تستمتع،تؤمن، وتكفر.
أية احتمالات تنتظرك حينما تدس كف اللغة في قبعة عقلك!
اذا كانت القراءة تنقلك من عالم إلى عالمٍ فالكتابة تخلق لك هذا العالم. الخيار بعدها يعود إليك. تستطيع أن تخلق عالما لا يراه سواك. كسرداب سري، يقود إلى مدينة ضخمة مجهولة. لا يملك مفاتيح أبوابه غيرك. تستطيع أن تختلي مثلا ، بالأباجورة التي صنعتها ، تتأملها، دون أن تعكر أذنيك ملاحظة تتعلق بالإسطوانة في طرف الغرفة لتكتشف أن الحديث كان عن الأباجورة. تستطيع أن تتنفس على راحتك في المكان، ربما تغير أثاثه من وقت لآخر، تصنع نجما يشبه الشمس، لكن إضاءته ناعمة، ويضيء على الأشياء التي تلتفت إليه، تخلق قمرا ثمانيَ الأضلاع، وورقة صفراء بدل السماء تخط فوقها حكمة ما، تتغير كل يوم. يمشي الناس على ثلاثة أطراف حتى يضطرون إلى التمهل. يختار البشر أوقات موتهم، وحينما يعبُر طاعنٌ في السن بين أناس يصغرونه يتهامسون عليه، يتندرون على عدم مقدرته على اتخاذ القرار، كما يتندر بشر العالم الحقيقي على عدم مقدرته في الفراش.
تصنع عالما يتبادل فيه التفكير والعواطف الأدوار، تتخذ قرارا فينصحك أحدهم بأن لا تندفع في أفكارك، ويدعوك لأن تحاول أن تترك العنان لمشاعرك قليلا، أو عالما تتحول فيه الرغبات المكبوته، أو الغرائز، إلى الأنا، ويتحول الأنا- بأفكاره الواعية ووظائفه المنطقية- إلى دافعك الأساسي، وحينما تعبر عن فكرة متحمسة، تحتاج لأن تناقشها مع غريزتك، عن طريق الأنا (الأسفل). تغير شيئا واحدا صغيرا، وتبقي كل شي آخر في مكانه، فتحصل على عالم مختلف، هذه الفكرة التي قد تبدو غريبة عندما تصنع عالما جديدا، موجودة في عالمنا الذي نعرفه، في تركيبات الجينات المعقدة، يتغير شيء صغير في مكان ما، فتتغير المحصلة النهائية تماما على الرغم من أن الأشياء الأخرى في مكانها. ترمي عود ثقاب في غابة، فتحولها إلى صحراء وأخشاب محترقة، تستبدل حرفا هجائيا بآخر، فتصنع لغة جديدة لا يتحدثها أحد وملايين الكلمات، تخطو فوق نملة لم تتزاوج بعد فتقطع نسلها حتى نهاية العالم، تحرق نفسك، فيهرب رئيسي دولتين، ويموت المئات، وتصنع التاريخ. كل هذه الأشياء الممكنة فيزيائيا، تحدث، ونصدق أنها تغير كل شيء بعد أن نراها بأعيننا، لكن ماذا عن الأشياء الغير ممكنة فيزيائيا؟
بالكتابة، وبالكتابة وحدها ،تصنع عالما، يرسل الله فيه إلى الأرض ملائكته، ليقضوا بين الناس، في محاكمات علنية، يتضح بعدها كل شيء! أو تصنع عالما ، تُكتب فيه أفكار الناس على جباههم، أو عالم يستطيع فيه الناس أن يقتلوا بعضهم بلا تبعات، وتتفرج علي ما يمكن أن يحصل، أو عالم يستطيع كل فرد فيه أن يعود طفلا إذا رغب، دون ذاكرته، أو عالم، كالذي صنعه جوزيه ساراماغو، يصاب جميع الناس فيه بالعمى، ماعدا شخص واحد.
تنفخ في عرض البحر، وتتمدد على فُرِش سردابك. تصنع كل هذا دون أن تطبع منه بضعة آلاف نسخة، كل واحدة منها صورة لما رأيت، تحاول أن تحاكيه، ولكن ليس تماما، تراها بأيدي الناس في الشارع، تتغير الصورة، تصنع منها كل عين مختلفة صورة مختلفة، ثم تحاسبك على هذه الصورة المتخيلة. يدس الناس أنوفهم في أنفاسك. يتسكع غرباء لا تعرفهم في أزقة مخك الضيقة.
هذه هي قضيتي، باختصار، أعشق الكتابة، وأخشى أن أصنع مجسما لمخي، تعبث به الأيدي، ويصنع صلصال أعينهم مجسمات يظنونها تشبهه، وفجأة أجده وقد أصبح لا يشبهني في شيء، تتناقله أيدي الكبار، ويتسكع داخله الصغار.
كرسامٍ تمتليء غرفة الرسم خاصته بألواح نصف بيضاء لرسمات بدأها ولا يعرف ما يصنع بها حينما تنتهي. أجلس على مقعد المرسم، أفكر ، بدلا من التفكير في الرسمة، فيما يمكن أن أفعل من أجلها حينما تكتمل، أخشى أن أخيب أملها. لا أريد أن أتعامل معها بطريقة عملية، أو اقتصادية، لا أريد التفكير في البحث عن مكان لها بعد أن تنتهي، عدم انتهائها يمنحني عذرا جيدا لكي أبقيها، تتكيء على خشبتين، تتصلان في الأعلى ، تتهامسان بشأن هذه اللوحة التي لا ترحل، الإتكاء بهذه الطريقة المائلة دائما ما يوحي برحيل قريب. أفكر في الخشبتين، في كم من الزمن سيتحملان في وضعية الوقوف المرهقة هذه.
أنهض من مقعدي ، أتأمل الألواح البيضاء، وأفكر طويلا، أي مصيرٍ ينتظرها بعد عشرين سنة.

متعب
أتاوا
مارس ٢٠١١





الأحد، 20 فبراير 2011

من مقعد في آخر قاعة المتفرجين، في الزاوية العليا على اليمين






من مقعدٍ في آخر قاعة المتفرجين. في الزاوية العليا على اليمين. أتفرج على مسرحية غريبة، أسميها مسرحية ليس لأن هناك من يمثّل على المسرح، طاقمها صادق بدرجة مربكة، فقط لأنني لا أملك كلمة أخرى تعبر عن مشهد درامي، بضوء يتسلط على شخص ما، قبل أن يسدل الستار، وكلمة تستطيع أن تعبر عن خليط المتفرجين الذين يستقبلون ما يشاهدون بانطباعات مختلفة جدا. تلك المسرحية أبطالها كثيرون. لكل فصل بطل واحد، يملؤ المسرح، ويشغل الناس، حتى لتظن أن ألسنتهم ستلهج بذكرة ردحا طويلا من الزمن. وفجأة، يختفي، لا أستطيع أن أقول بلا مقدمات، لكن بالمقارنة بحضوره السابق الطويل لا تملك إلا أن تحس بأنه اختفى فجأة.
لم يخبرني أحد عن هذه المسرحية، التي أحضرها مجبرا ، لا أعلم من هم أبطالها، حتى أراهم. لا توجد أية إعلانات تخبرك عن بطل الفصل القادم. كل فصل له لهجته الخاصة، إضاءته الخاصة، بل حتى متفرجيه الخاصين، عند بداية كل فصل، يتقدم بعض المتفرجين من الخلف إلى الكراسي الأمامية، ويتبرع الجالسون في الأمام بمقاعدهم عائدين إلى الخلف، يحملون رؤوسا أثقل مما كانت حينما جلسوا هناك. القادمون إلى المقاعد الأمامية يحملون معهم أحيانا لوحات بلاستيكية شفافة مضحكة لابد أنهم أحضروها بسرعه وهم يهرعون للمكان، يرفعونها عاليا، ليرى الناس المسرحية من خلالها. ترى بعض الرقاب في الخلف تلتلف لتتجنب المشهد المشوه وترى المشهد على حقيقته، الغريب أن بعض الرقاب في الزوايا التي تمكنها من تجنب اللوحات، كانت تلتف حتى تستطيع أن ترى المشهد مشوها!
النجاح المدوي للفصل الأول، والفصل الثاني، أربك المتفرجين الذين امتزجت دهشتهم البالغة، بالترقب لكل هذه الإثارة لمسرحية يصلح كل فصل من فصولها ليكون مسرحية ملحمية. الطاقم خلف الكواليس أصبح مثارا تماما. بدأ ترتيب الفصول يختل.انقسم المسرح لثلاثة فصول مختلفة، كلها يستخدم صيحات المتفرجين وكأنها تخصه وحده، ابتدأ الحماس بضخ (الأدرينالين) في العروق. أصبح الناس يرددون عبارات الفصل الأول والثاني، لا يبدو أن أحدا يريد أن يصنع مشهده الخاص، كيف يمكن لمشهد جديد، أيا كان، أن يحصل على نجاح مشابه.
نسبة النجاح الكاملة حتى الآن. مغرية جدا، قد تستمر الفصول حتى لا يبقى أي بطل ليمثل فصلا جديدا. ويرحل كل المتفرجين بعد أن شاركوا في الفصل الذي يخصهم. مثل ذلك الذي حصل في المسرحية الشرق أوروبية.
أرى الهرج وأفكر من مقعدي على الزاوية في محمود درويش، وأتخيل شكل (الباتشينو) في تاجر البندقية، وأسمعه يقول:
"أما (للغبيّ)كما لليهوديّ
في تاجر البندقية،
قلبٌ، وخبزٌُ
وعينان تغرورقان.."

أفكر من مقعدي على الزاوية، متى سيأتي الفصل الذي يخصّني، لم يعلمني أحد كيف أقف على المسرح من قبل ولا أظن رفاق جيلي الذين شاركوني مقاعد الدراسة يختلفون عني كثيرا في هذا الأمر. أنا لم أخطط يوما لأقف على مسرحٍ من أي نوع، المتفرجين الذين تسلقوا عتبات المسرح فاتحين صدورهم لكل ما يمكن أن يأتي، هل كانوا على مقاعدهم يخططون لمثل هذه الفرصة أم أن المسرحية الغريبة، التي تستهلك كل تركيزك فلا تلتفت، تستحق مسرحاً غريباً، مسرحا، يظن كل جالسٍ فيه ، أنه يجلس على مقعده في آخر قاعة المتفرجين، في الزاوية العليا على اليمين، يتفرج على مسرحية غريبة.

متعب
أتاوا،
٢٠ فبراير ٢٠١١

*Photo by: Brian Henningsen