الأحد، 20 ديسمبر 2009

أبي



شنطة الحزن التي حملتها فوق ظهري ثلاثة أيام من مطار إلى مطار . كخفٍّ لا أريد أن أخلعه قبل أن أتوضأ بدموع أهلي بكل ما يستطيع جلد تجلدي أن يستحمله دون أن يتقشر عن عظام ذنوبي. عظام ذنوبي التي تسرطنت في داخلي حينما مات أبي بعيدا .
رفعت حاجبيّ المنهمكين على دفتر حياتي ، فجأة ، على خبر يجعل الدفتر بلا فائدة والانهماك ترف لا أدرك لماذا يستغرقني. أبي الذي انهكمت على ذلك الدفتر أسطر الأشياء فوقه دون أن أ أتذكر أن أفتح على الصفحة الأولى دوما . الصفحات الممتلئة المبعثرة في المنتصف استهلكتني ، انهمكت بها حتى أنسيت ما كتبه في إهداءه لي على الصفحة الأولى . مات في يوم مناوبتي ، وأنا أتنفس ، دون أن أعلم بين أي نفسين من أنفاسي فقد تنفسه ، مات وأنا أحاول أن أساعد غرباء لم ألتق بهم يوما من قبل.
حملت شنطتي إلى الرياض التي أصبحت تبعد مسافة ثلاثة عشر منديلا ، وساعات تتبعثر على خطوط طولٍ لم أعد أفكر كيف أحسبها ، كانت تشبه درجات سلمٍ يتمدد بالعرض على خارطة الأرض، أهبط عليه باتجاه عكسي ، فأحس وكأنني أهوي، كانت يداه تعاوناني على الصعود ، وأنزل اليوم وحدي ، مترنحا بكؤوس جرعنيها الدهر عنوة ، وليس ثمة أيدٍ أتكيء عليها
قال لي يوما ، لا أحد يتمنى أن يتفوق عليه أحد سوى ابنه ، أريدك أن تتفوق عليّ وسأفرح بك ، كنت أعتقد أنه يعرف كل شيء ،كل شيء قبل أن أسأله يوما ، من خلق الله يا أبي ؟ أخبرني بأنه لا يعرف ، ولكنه أيضا أخبرني أن لا أحد يعرف ، فبدأ عقلي الصغير من ساعتها ، يظن بأن أبي يعرف كل شي ء ، سوى الأشياء التي لا يعرفها أحد
شاربه الغليظ ونظارته التي يخرجها بدقة كي يقرأ الجريدة، رائحة سيارته ، ملامحه الجادة ، ابتسامته الساخرة . تخرج كل الذكريات ، على هيئة شهقة طويلة .شهقة لها أطراف حادة. شهقة لم تنته ، شهقة أتذكر بدايتها جيدا ، ولا أظن أنني سأتوقف عن سماعها يوما
تفقد الكتابة طعمها ، لم أستطع أن أمضغها لشهرين ، تترك الباب مفتوحا على مصراعيه لخياناتٍ كثيرة ، وفراغات أكثر، ربما يستطيع الشعر أن يبعثرها على رقعة أوسع. لا أرجو مما كتبت سوى دعوة صامتة من أجله
..



ورحلت يا أبتي
وتركت هذا الكون أضيق ما يكون
فطويت أشرعتي
وجئت إلى الرياض
تتقاذف الأمواج أشلائي
وأصرخ في سكون
..
ويمرغ الخبر الفجيع
خدود ذاكرتي الحزينة في التراب
كم مر منذ حديثنا المقطوع
بين مفازتين
كم مر .. منذ ولادتي
كم مر مذ أوصلتني يوما لباب حضانتي
كم مر .. منذ أن جبنا الملز بدراجتين
كم مر مذ أهديتَ أجنحة ً .. وطرتُ
وانشطرت نواة الذكريات
لعالمين
**
رحلتُ عن وطني
ليرحل عني اليوم الوطن
ودعتهُ
في متنِ طائرةٍ
وودعني على متن الكفن
**
سافرتُ
وشنطة الحزن الثقيلة فوق ظهري
لأيامٍ ثلاث
ولست أخلعها كخفٍّ كي أبالغ في الوضوء
بدمع أهلي
بالأسى الذي ينساب في خدي
كنهرٍ في هدوء
..
ورجعتُ
أحمل الذنب المؤرق
ومئات كلمات الوداع
مالم أقله
ولن أقول
ما تسرق السنوات منا
وترحل دون أن ندري
متى يوما تؤول
ولن تؤول
وسُرقت يا أبتي
بلا كلامٍ أو سلام
وأتتني الأخبار فاجعة ، مسافرة ً
كريح ٍ
تزلزل في العظام
كإعصارٍ يدور مزمجرا
قد جاء من أقصى الرياض
ليحط في كندا
وقد تعاظم في الطريق
ويهزني أبدا ،
ويبلع الأشياء والآمال
كالأوراق ِ
في صمت الحريق
**
ووصلت أرض مدينتي
عادت إليّ الذكريات بجيشها
وكل شيء ٍ صار يشبه فيك شيئا
أوجه الناس الذينَ لا يدرون عنك
ولا عن قلبي المخلوع شيئا
قارنت ودون أن أدري
بسنين عمرك
سنين العابرين
وعجبت من سكناتهم
وعجبت من صمت البنين
ورأيت وجه أخي
وتحرك السكين في قلبي
فجمدت حتى قد عجزت عن الكلام
وكان جل حديثنا
عينان تفتضحان ِ
ذلك الحزن المهذب في أحاديث الرجال
وأنا قد جئت زوبعة ً
تمشي كنسماتٍ
وتدعي فضل السكينة
وبي مالو أفلتّ من عيني
لانساب نهرٌ في المدينة
وتستقبلني على الباب
أكتاف والدتي
وكأنها وادٍ يذود عن المدينة
فأشقّ أوردتي
وأسكب في ذراعيها
آلامي ، وزوبعتي
وأفيض كالكأس الصموت
يلمّ زخات المطر
روحان تشتكيان أسواط القدر
وتفوح في الأجواء رائحة الممات
والحزن المعتّق تحت أتربة السفر
وترمقني أعين الباقين عطفا
كالكفوف الحانيات
كالرابتين على ظهور رجولتي
ولا رجولة في الممات
..
أفرغت أحمال ألفاظ العزاء
بلا كلام
وقد اكتفيتُ بلفظةٍ أو لفظتين
وتركت عينيّ ، تبوحُ بكل حزن الأصغرين
فلا لسانَ
ولا فؤادَ
ولا حتى يدين

بلّلت أقنعة السكينة والوقار
وتفيض ، بسد عينيّ المنيعة
نافورة الفقد الأليم
بلا اختيار
وأجاهد الماء اللعين
بقبضتي، من أجل إخوتي الصغار
فأنا قد جئت من أقصى الكون منكسرا
لأجبر .. ما يكون من انكسار
أي أحزانٍ تلك التي يلقي بها ملك الرحيل
أي أحزانٍ تلك التي يزرع الموت
المزلزل في القلوب
.. ماذا
ماذا أقول عنك
ماذا لا أستطيع بأن أقول
ماذا سأفعل حين أرجع بالشهادة
ماذا بربك دون أعناقٍ
سأفعل بالقلادة ؟
قد كنت تدفعني لأجري
قد كنت تدفعني لأعلو
وتقول لي دوما
بأنه يرضيك أن أعلو عليك
عد ، لتربت
أو لتقرص
فأنا أشتاق يا أبتي يديك
أشتاق لأن أقبل فوق أطراف الأصابع جبهتك
سامح صغيرك
وارض عني
كل كلمات الحنين التي خبأتهنّ
عدن وزلزلنّي
سامح الأمل الطويل
فما ظننت بأنه يغتال مني
والتذمر
والتفكر
والتمني
وبعدي وسفري ، واختلاجات الرحيل
وكل ما جافاك عنّي
**
وأعود
وأعود من وطني
كنائحة تولول في وقار
صرخاتها قدمي
وسمع الناس أروقة المطار
وأمتطي
ذلك الطائر الضخم الحزين
بلا ملامح أو عيون
متكوماً بجوار نافذة أحدق في السحاب
وأسرح للبعيد
وأرتب الأحزان في قلبي
لأبدأ من جديد
وأحط في كندا
أجر حقيبتين
وغربتين
ويسألني الموظف
إن حملت غير حقائبي
فأجيب : لا
لا شيء تقدر، مهما تحاول أن تراه
أب وفارقني
وأطنان ٌ من الكلمات
تبعثرت ، وتجمعت ،
وتناثرت ،
والريح تأبى أن تزفّ إلى ثراه
وحنجرة الوداع ، حبلين منقطعين
ما انفكيت أصلحها
وأتيت بها مفككة ومهملة
بلا حبال ، أو لسانٍ ،أو شفاه
**
ذكراه سكينٌ
وشراع قلبي يرفرف كالذبيح على السفينة
وإبحاري طويلٌ وقد ضاقت على همي
بحيرات المدينة
**
أفهكذا تنتهي الأشياء
أهكذا .. تبلع الأشياء
أمعاء الأبد ؟
دنياك زلزالٌ عظيم
لا يحس به
- ولو واسى-
أحد
..

متعب
أتاوا
ديسمبر 2009




هناك 4 تعليقات:

  1. ما كل هذا الجنووون
    جنون المشاعر...تناثر على الورق
    بكل سهولة أو صعوبة
    اقسم بأني لا اعلم
    ما اعلمه ان احساسك شفااااف ومرهف

    ردحذف
  2. My sincere condolences Meteb..
    With love,

    ردحذف
  3. يا الله !!!
    شعرٌ منثور و نثرٌ مشعور ..
    غيمة الحزن الأنيقة فاتنة الجلال !!*

    ردحذف
  4. Online Baccarat for Real Money in NJ! | FbcAsino
    If you're looking for 10bet the best online baccarat 바카라사이트 sites, you're in the right place. We have prepared our NJ online 12bet baccarat review, which states you can play

    ردحذف