السبت، 29 أغسطس 2009

هندي لا يعرف طريق البطحاء ، وصديق آخر ، وسعال








رمـضان ، الذي يجعل مني رجلا آخر .
رجلٌ ، يلوك شوقه مع حبات التمر ، ويغمض عينيه إذ يشرب القهوة ، ويسرح ذهنه بعيدا ، بعيدا . أراقب الساعة ،أصنع من عيني أذنا ، وأتخيل الساعة حنجرة مؤذن. أقدم الشاي لنفسي بعد الإفطار وكأننا شخصين ، أحدهم يضع الصينية مبتسما ، والآخر يسند ظهره على الكنبة السوداء ممتنا . أمتليء بالحديث ، كان في رمضان العام الفائت يتكدس فوق حنجرتي ، ككرة صوف ،أختنق بها ، وقرر في رمضان هذه السنة أن لا يرهق نفسه بالنزول هناك بلا فائدة ، فتكدس في عقلي .
أود أن أتحدث عن مسلسلات رمضان ، ومقالات رمضان ، و الحر ، و الأشياء الصغيرة التافهة ، التي لا معنى لها . أود أن أتحدث عن الفرق بين أن تضع الهيل بعد أن تفور القهوة أم قبلها ، عن لذة خلط الماء باللبن ، أود أن أجلس في الصالة منتفخا وأقول : مالي لا أرى الهدهد ؟ : فترمقني أمي بنظرة نصف غاضبة ونصف ضاحكة ، تتمتم : استغفر الله ، استغفر الله بس ، "منتب صاحي !" .
الوحدة ، التي جعلت جبران خليل جبران ، يخرج منها مسميا نفسه "المصطفى " ، ويكتب كتابا يسميه النبي ، يخاطب الناس فيه من منابر الأنبياء .الوحدة التي جعلته يتخيل نفسه عظيما من بعد صغار ، وتجعلني أتخيل نفسي صغيرا من بعد عظمة . الوحدة التي تهرسني هرسا ، وتعجنني عجنا ، وتطحنني طحنا . أمشي وكأنني في علبة بجدار مصمت لا يراني أحد ، كهندي لا يعرف طريق البطحاء ، وحينما ذهب إليها حدثوه بأشياء لا تروقه ، يظنها أقل من ينزل إليها وربما كانت أعلى من أن يصعد .ما انفك يلوم نفسه على موقعه المحير ّ وتساؤلاته المتعبة ، ويجلد ذاته جلدا يليق باستحقاقه الذي يتخيله .
الوحدة التي ألومها على كل شيء ، منذ ثلاثة أيام كتبت الكلام أعلاه ، كنت أشعر بقواي وقد خارت ، ومزاجي وقد تعكر ، ورجلاي وقد ضعفت ، وبعدها بيوم ، انتفخ حلقي كضفدع بجلد لا يتمدد ، هدتني الحمى ، وتحدرت شلالات عقلي على منحدرات أنفي ، جاء البرد يغازلني وأدفعه ، كفاتنة ٍ مع رجل ٍ صالح ، أو كدميمة ٍ مع فاسق ، يلحقني في كل مكان ، وحينما أنثني على السرير ، أطلق تنهيدة لائمة ، وكأنه يستطيع أن يراني أتذمر برفق قد يُخجله . تذكرت ما كتبت قبل زمن ، عن المرض ، عن ما نفعل حينما نضعف ، عن احتياجنا الذي يتقشر عنه جلد قوتنا بأظافر المرض. ذلك الشعر الذي كتبته قبل سنواتٍ خمس ، ذات مغص .

أعاني .. وحيداً
كمثل الغريب !
كمثل الطيور .. إذا ما تموتُ .. بأرض القفص !
تلويّت وحدي ..
تفتّتُ إرباً ..
بسوط المغص !
وتلتفّ ساقي .. بساقٍ قريب
واسمع صوت احتكاك الملابس ِ ..
مثل النواح ..
كمثل النحيب .. !



***



هل من عليلٍ .. تفكّر يوماً !
لماذا .. يداعب ساقاً .. بساق !
لماذا يخربش .. وجه السرير ..
لماذا يبالغ في الالتصاق ؟
لماذا يقبّل خدّ الوسادة
لماذا يلامس ..حتى الجدار
لماذا العليل .. الوحيد .. يتوقُ ..
إلى الانكماش ..
إلى الانحناء ..
إلى الانكسار !
فيبدو كرأس محب حزينٍ
تمنى بصدر الحبيب .. القرار !



..
لماذا نحاور أجسادنا !

..
ونطفيءُ حتى .. ضياء السراج !

..




هو الاحتياج !



..
هو الاحتياجُ



هو الاحتياج !
..
والاحتياجُ .. أبو الاختلاق ..
لهذا نــُخلّـق .. من بعضنا ..
شيئاً .. نجرّب ..
معه .. العناق!


عانقت نفسي ، وخرجت من الشقة ، أبحث عن قهوة لأحشوها كإسفنجة في شلالات عقلي ، تخلّق داخلي صديق جديد ، يهذي طوال الطريق ، يمازحني ، ويسرد ملاحظات ممتعة ، أبتسم لها . صدقت أنه شخص آخر فقد كان صوته مختلفا ً ! كان يتحدث بصوت خفيض ممزوج بشيء يشبه النعاس ، كان لاذع السخرية من كل شي ، كان رائقا ، ودمه خفيف . ربما كانت الحمى تبخر شيئا من الدماء في قدور الأوردة المصمتة . كان يقول متأوها "إيييه يا حزم الظامي "هازئا بي ، ويغني أشياء سخيفة ، ويرمقني بنظرة عابثة ساخرة حينما أتوقف لألتقط أنفاسي "لايا شيخ ، أقول امش انت ووجهك ! " . بعد نوبة عطاس وسعال ، تأوهت دون قصد فسمعته يقول :"وش بلاك تونون كنك عجيّز بتولد " كان يتحدث وحيدا ، ولم يكن بي طاقة للرد ، بحثت عن صوتي الأول فلم أجده . كان يدغدغني لأضحك بطريقة هستيرية على العجوز الذي سقط في البركة حينما سجد في حلقة الأمس من "طاش ما طاش" . ضرب بالناس عرض الحائط ، وأعارني ساعديه .
عدت إلى شقتي ، تركته قليلا ،كان كطفل أضحك معه حينا ، وينغزني كل حين . فكرت في الذهاب إلى المستشفى ، الطواريء ستكون مزدحمة الآن ، ليس بي طاقة على الانتظار ، تذكرت نصيحة أمي بأن أرى "طبيبا" . ذهبت إلى مرآة الحمام و نظرت إلى نفسي! باغتني الصوت :"سلامات " ، ثم أردف قبل أن أجيب : " مافيك الا العافية ، رح نم " ، ابتسمنا سوية ، ابتسامتي متعبة ، وابتسامته حنونة ، مع قليل من السخرية ، وشيء من الثقة بي ، مشينا إلى السرير متلاصقين ، عانقته ، ونمت .

Ottawa ,
Aug. 29th, 2009

هناك 7 تعليقات:

  1. رائعة .....

    سلامات وما تشوف شر

    فهد =)

    ردحذف
  2. cheer-up-smile :

    Thanks


    Fahad :
    الله يسلمك ياغالي
    better late than never they say ;)

    ردحذف
  3. The last paragraph.. such a creative interplay..
    creativity and creation that comes from need..
    a creation of a self that is stuck to us... telling us we are not alone as we realize the threat of realizing not that we are along, rather that we might always be alone....

    ردحذف
  4. correction: not that we are alone*, rather that we might always be alone...

    ردحذف
  5. هوه انت لحالك هناك ليه ؟

    ردحذف
  6. هنا موقع (مُتعَب) لا متعِب ..

    ردحذف