السبت، 5 يوليو 2014

فرش سجاد الطمأنينة فوق بلاط القلق!







كم أنا بحاجة لعامل ماهر،يفرش سجاد الطمأنينة فوق بلاط القلق البارد،متسلحا بسكاكينه وصمغه، حتى آخر زاوية يذهب لها مثلث السجاد المطويّ المبلل بالصمغ في جزئه الخفي،هائما مغمض العينين ، يتهادى وهو يبتسم،متحضرا لعناق أبدي!


حينما تفتش في ذاكرتك جيدا، بطريقة إفراغ صندوق من محتوياته حتى تجد ذلك الشيء الذي يتهرب منك تحت الأعراض الباقية في آخر الدرج .. 
ستتذكر،عندما تصل إلى زاوية الدرج القصية أن قلقك كان ينطفئ تماماً، يوما قديماً ما ، كشعلة صغيرة في منديل حينما تصب عليها من ماء الأحضان، وأن ذلك لم يعد ممكنا. 

ربما لأنك كنت صغيرا جداً، كان بإمكانك ان تقلق وأن تخاف، وأن تحضنك والدتك فيختفي كل هذا. تماماً. ينطفيء ،كشمعة في منديل، حينما تصب عليها من ماء الأحضان! ربما تعلق هذا بحجمك، وبالطريقة التي يتم احتوائك بها، كاملا ً، غير منقوص. دون أن يتسرب منك ولا حتى إظفر صغير خارج الحضن. بالطريقة التي تحتوي بها قبضةٌ مصباحا صغيرا يتم استخدامه كعلاقة مفاتيح، فيختفي النور تماماً.

ثم كبرت!

أنت الآن .. أسطوانة ضوء ضخمة، نيونٌ أخرق، لا يمكن احتواؤك، ولو تم احتضانك من الإمام بصدفة عجيبة، تظل شعلات القلق، تشع في المكان، تنتظرك خلفك، حالما تفرغ من الحضن لتعود لقلقك. تلك الطريقة التي تبدد بها قلقك الصغير يوما وتلاشى تماماً، في لحظتين، تجربة باهرة، لم يعد بالإمكان تكرارها.. ولو تكررت لك كبالغ، فإما ان قلقك مازال طفلاً ، او أنك محظوظ بحضن فرعونيّ يبلع القلق. أو حضن ثعباني ّ يبلع المصابيح في ثريّا قلقك، لقمة، لقمة.

يارب الأحضان، أخرج لنا منها ما يسعنا!


تورنتو - ٢٠١٤

الأربعاء، 26 مارس 2014

فرد سجادة ملفوفة .. !





"لو كان تويتر متجرا للسجاد،يعرض سجادات الأفكار ،فلن أستطيع ان أريك هنا سوى ظهر السجادة الملفوف،وأدعوك بأن تتكرم بفردها في صالة عقلك الكبيرة!"


التغريدة السابقة كتبتها في تويتر، وأنا أعنيها بكل حروفها. فكرت أنه قد يكون من الإنصاف، أن أذكر مثالا على هذا الأمر، بتغريدة أخرى، بسجادة ملفوفة، أفردها ببطء وأنا أشير إلى تفاصيلها.  وما دام هناك من يؤلف كتبا بتغريدات مرصوصة، فلن يضير أحدا أن أفرد تغريدة واحدة في صالة مدونة خاصة بي، لا تتطفل على أحد! 

التفسير يقتل النصوص، لكن لا بأس به من حين لآخر.أحب أن أفكر في أن هناك من يستنبط ما تتعلق به التغريدة، من ينسج من خيوطها نسيجا آخراً،ويُخرج أرانب الأفكار من قبعة التغريدات.سأتحدث عن الأمر فيما يشبه منح المهتم تذكرة لكواليس مسلسل، وما يشبه المحتوى الإضافي على أسطوانة فيلم تخبرك عن نهاية أخرى تم تفضيل النهاية التي رأيتها في الفيلم عليها، دون أن يسألك أحد عما إذا كنت توافق. وغني عن الذكر أن مشاهد الكواليس لمن لا يعبأ بالمسلسل، مشاهد مملة على أحسن تقدير، ومنفرة على أسوأ تقدير!

التغريدة التي سأستخدمها كمثال، هي آخر تغريدة كتبتها، قبل أن أتحدث عن التفسير والمعاني التي تتخبأ تحت مفارش الكلمات: 

"ثمة أحداث تبقى طوال عمرك على حبال ذاكرتك دون أن تنشف.. "

تستطيع، لو وثقت باستحقاق هذه الكلمات لوقتك، والجهد الذي يبذله فكّ مخك في علكها، أن تستنبط أشياء كثيرة تتعلق بها. مثلا، حين تعلق حدثاً على حبال ذاكرتك، تعليقه بطريقة مستوية وحريصة، تساعده على أن ينشف سريعا، بدلا من إلقائه دون اهتمام. وأيضا، قبل أن تعلق الحدث على حبال الذاكرة، اعصره جيدا، وإلا فإنه سيرهقك برطوبته طويلا. عصره في هذه الحالة،أن تعيشه كاملا. أن تتأمله جيدا.وأيضا، الأحداث كالملابس، نرتديها بعض الوقت، ثم نتركها على الحبل،ولا نملك بعدها سوى أن نتأملها ونتوجع أو نفرح،بناء على تخيلنا لشكلنا القديم معها!  وأيضا، الأحداث ليست طعاما نأكله ثم نتخلص منه، هي تبقى كقطعة ملابس تذكرنا بوجودها طوال الوقت.. 

بشأن حبال الذاكرة، تخُّيلِها كحبال، يجعلنا نتخيل سقوط شيء منها. ما يسقط إذاً، لا يختفي، ولكنه يبقى قريبا من الذاكرة،الا أنه مغبرّ،وفي استعادته مشقة!  بشأن الأحداث كملابس، الملابس مخيط تنسجه التفاصيل الصغيرة، وخز الإبرة يُتِمّ أطرافه،وتتداخل فيه خيوط التفاصيل وألوانها،وتصنعه أصابع كثر!   وأيضا، أن تنشف الأحداث سريعا، يتعلق بالشمس كعامل آخر مهم. حينما تكون حياتك مشمسة ومشرقة. تنشف الأشياء سريعا بغض النظر عن بللها!  وأيضا، الأحداث الناشفة على حبال الذاكرة تستطيع أن تمر عليها لقطفها من الحبل مبتسما كربّة بيت سعيدة. أما الرطبة منها فتثير امتعاضك كلما لمستها!  وأيضاً تراكم أحداث فوق بعضها على حبل الذاكرة الموعيّة القصير يجعل مجموعة الأحداث هذه، أكثر رطوبة، وتحتاج عندها لوقت أطول كي تنشف. وأيضاً ، في الأحداث كملابس، والذاكرة كحبل غسيل ما يجعلنا نفكر في الطريقة التي تتفاعل بها الملابس مع الحبل،وأن بقاءها رطبة فترة طويلة،يغيره إلى الأبد.

وأيضا، في الأحداث كملابس والذاكرة كحبل غسيل ما يجعلنا نفكر في ابتعادها عن مداخل بيوتنا ومانعرضه على الناس،وأننا نخبئها في سطح أو سيب! وأيضاً في اختبائها ووضعها كملابس ، ما يلمح الى أننا نختار منها الناشف المهندم، لنلبسه أمام الناس، ونخفي منه الرطب الذي لم نتصالح معه!

انظر لها مرة أخرى الآن: 
"ثمة أحداث تبقى طوال عمرك على حبال ذاكرتك دون أن تنشف..! "

التفسير يقتل الحياة في النص. يحوله من كائن حيّ، إلى كائن محنّط. وكما هو الحال مع الحيوانات قد يظن البعض أن رأس غزال محنط،أجمل منه متوثبا متلفتا،مفتوحا على الاحتمالات. لكنني أحب الحياة أكثر،وأثق بمهارتك على التحنيط، كقاريء أكثر من ثقتي بقدرتي عليها، إذ أنني أرتبط بعلاقة مع الغزال الحي تعقّد مهمتي في تحنيطه. أنا على استعداد لفعل أي شيء لأبقي على الغزال حيا،ولو قال كل من مر به بصوت واحد:حنطه! حنطه! حنطه!.  أنا هنا أحاول أن أحنط رأسا واحدا،ليتصرف الرأس المحنط كدعاية للرأس الحقيقي الحي،ويخرج من يكرمني بقراءته،إلى الغابة بحثا عن الغزال الحقيقي!

صديقي القاريء، أنت بطل القصة هنا. أنت صاحب كل السجادات التي تفردها بنفسك. في هذا الحساب *وضعت من أجلك مايقارب ١٠٠٠٠ سجادة ملفوفة، تناول منها ما شئت وافردها في صالة عقلك. كل ما يمكنني أن أعدك به، أنني أقف خلفها جميعا، واثقا بها، وأنها ملفوفة بعناية. وأنني أتفهم تماماً أنك لكثرة ما رأيت من السجاد الرديء المفرود أمامك بتطفل ورقاعة، قد تظن بظهر السجادة الملفوفة الظنون كأن تظن بأنها الوجه المغزول، وتظن بأنها مفرودة بتثنٍّ مشوه! 

تويتر أضيق من أن نفرد سجاداتنا داخله،ولا أشك لحظة في أن من الصالات ما يفوق صالة عقلي كرما.وأظنني أكثر رأفة بنصوصي من أن أستطيع قتلها وتحنيطها. وأكثر لطفاً من أن أتطفل عليك بسجادات ضخمة مفرودة.. 

الحديث على الغصن كثير، والعصافير الزرقاء المغردة هائلة العدد، والحروف تتبعثر كرمل في صحراء شاسعة يطؤه الناس دون انتباه، أحاول أن أقوم بدوري في القضاء على الثرثرة الفارغة، فألفّ كل فكرة جيدا قبل وضعها هنا، بالطريقة التي تصفط بها طرف السجادة بأصابعك حتى لا تأخذ مكانا أكبر، بفراغ يملؤه الهواء في منتصف الدوائر الحلزونية! 

سأحاول أن أسامح نفسي على قتل النص، وسامحني أنت على الثرثرة الفارغة، والفراغ الذي يملؤه الهواء هنا، فراغٌ كبير،فراغُ أن تتسع الدائرة الصغيرة،تلك التي أنتجها اللفّ الرديء، لتصبح أكبر ما يمكن لها أن تصبح. تصبح سجادة مفرودة، تفتح صدرها لكل هواء العالم، دون خجل. تحتل المكان كطفل سيء الطبع ينبطح فوق لعبة لم يهبه إياها أحد!

من كان سيصدق: اللف (الغموض) فعل تواضع! والفرد (الشرح) تبجح واستعلاء! 

مارس- ٢٠١٤

* Twitter: @Meteb_Hamid

السبت، 14 سبتمبر 2013

انعتاق





لحظة الانعتاق لحظة انتشاء محض، تشبه اللحظة التي تتفحص فيها الشجرة جذورها التي كابدت لانتزاعها،بعد أن تفتح عينيها التي أسدل ستائرها الألم، فتجدها كاملة حتى آخر عرق غض، لم يستبقِ منها التراب عرقا واحدا. تبتسم، وتركض بأقدامها الكثيرة الجديدة التي لا يكبلها شيء الآن، تركض ككائن خرافي مهيب، تركض بألف قدم، دون أن تترك من نفسها شيئا وراءها، تركض كطائر، تركض، كما لم تركض شجرة من قبل! 

تورنتو
سبتمبر ٢٠١٣

الأحد، 1 سبتمبر 2013

احتضار..




لم أرَ من قبل بلدا تحتضر. لا اعرف كيف تكون رائحة الغرفة التي تقطنها، ولا صوت حشرجاتها الأخيرة. لكن بالطريقة التي تدرك فيها-ولو كنت ترى ذلك للمرة الأولى- أن رجلا ما تنظر في عينيه الذاهلتين الآن ،يحتضر. ترى هذه البلد، وتضع عينك في عينها وتدرك أنها بلاشك، تزفر في وجهك أنفاسها الأخيرة ..



السبت، 2 فبراير 2013

تنانير الأفكار القصيرة في تويتر.. !



الأفكار ترتدي تنانيرا قصيرة في تويتر!


الحقيقة ان هذا على كونه يبدو تشبيها فجا، الا انه قد يكون اكثر مشابهة مما نظن، عصر السرعة-ان قبلت هذا التعبير المبتذل- يجعل الناس اقل قدرة على التأمل في الاشياء واختبارها.  عبر التاريخ الحديث في المجتمعات التي لا تتخبأ في الصناديق،  تستطيع ملاحظة ان التنانير اصبحت اكثر قصرا.  من وجهة نظر مجتمعية، يمكن النظر لهذا على أنه انعكاس للرغبة في الخروج في انطباع سريع، فكأن رجل هذا العصر لا يملك وقتا، لمحاولة اكتشاف ما خلف الفستان الطويل، والتبصر في شخصية المرأة بدلا من مسح سريع لمنظرها الجذاب ...فقصرت التنانير لترى الأمر بسرعة، ولان في هذا مظنة انخداع: الكاسب هنا، هو من يحاول ان يتأمل فيما وراء المشهد المغري الناقص، الكاسب بهذا الفهم، هو من لايمانع بأن يتأمل ويحاول معرفة ماخلف الفستان الطويل، وماخلف التنانير غير المغرية منذ النظرة الأولى.. 

وتويتر هكذا، تنانير الكلام القصيرة هنا، تسيء إلى الأفكار، أو تبهرجها بشكل متبذل، وكالحالة بالنسبة للنساء، يجب عليك ان لا تهتم للشكل القصير او الطويل ، وتحاول معرفة ماخلفه، أن تحاول معرفة القلب. قلب المرأة- بالمعنى العاطفي- ، وقلب الفكرة -بالمعنى اللغوي-  ان تترجل من القطار السريع، للحظة تأمل على رصيف فارغ قبل أن تركبه من جديد ، أن تتخير( لعقلك) زوجا صالحا، لتحظى ببنات أفكار صالحات، فإن العرق دساس!

معاشرة كل هذه الأفكار المبتذلة، التي لو تأملتها بما يكفي لخرجت بحماس يشبه حماس الفتيات السعوديات لإخبار الجميع، بالشكل الحقيقي، والوجه البشع النصف مصبوغ، الذي اكتشفنه في دورات المياه، للفاتنة التي كانت تتبختر قبل دقيقة في ممرات السوق، أقول أن معاشرة هذه الأفكار، ستفسد ذوقك، ومزاجك، وطريقة حكمك، والأهم: بنات أفكارك!


فبراير ٢٠١٣

الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

كانت فتنة ياغازي !






كانت فتنة ياغازي!
(١)
،غازي القصيبي، الذي حذر في كتيب صغير، اسمه "حتى لا تكون فتنة" مما نراه الآن، حاور ناصر العمر، وسلمان العودة، وعائض القرني، بالتي هي أحسن، كما قال في مقدمة كتابه. لا بد أن هذا الكتاب لم يقرأه الناس كما يجب، كتاب حافل بمقتبسات حرفية مما قالوا،حافل باتهامات له، رد عليه بعقله لا بعاطفته، لا رمزية ولا غموض فيه، كتاب من الممكن قراءته بنصف ساعة فقط، لكن أحدا لم يحفل، وكانت فتنة! 

اقتبس فيه شيئا مما قاله ناصر العمر في شريط له: 

"ومن مبادئهم ... ما يسمى بمبدأ الحوار ... عندهم مبدأ الحوار ... حاوروا وهذا المبدأ ... خطير ... خطير .. خطير"
.(القصيبي، حتى لا تكون فتنة،ص١٣)، ورد عليه.
وقال لعايض القرني بعد أن سرد ماذكر القرني من مغالطات،تعبر عن خلل في الخلق وفي الفهم، وفي المروءة، في شريطه عن غازي،قال له :   

أما أنا أخي الكريم فأشهد االله ، جلت قدرته ، وأشهد خلقه أنك آذيتنـي ، وعيرتني ، وتتبعت عوراتي ... ومع ذلك أدعوا االله أن يجنبك الفضيحة في جوف رحلك .
(القصيبي، حتى لا تكون فتنة،ص٤٨)

وتحدث القصيبي عن ما يقوله سلمان العودة، إبان حماسته، يحدثنا العودة عن التغيير دائما، ولا يقول ما كان يقوله من قبل، لذلك فلربما لا يكون هناك داع لأن أذكر هنا ما قيل هناك، ويمكن للمهتم مراجعة الكتاب، يعيب البعض على العودة، أنه لايتحدث بصراحة عن أخطاءه السابقة، لا يتخلى عنها تماما، يهمهم بما يدل أن الناس يتغيرون وأن من قلة المروءة تتبع ما قاله الأشخاص من قبل، وربما كان محقا، لكنني سأجد صعوبة في شرح هذا لامرأة فقدت ولدها في أفغانستان بتأثير منه، ثم سمعته هي يتحدث على شاشة لامعة، كما سمعته أنا وتفاجئت قبل سنتين يتحدث عن" الشباب المُغرر بهم" في ذات السياق الجهادي ، هكذا يبني الفعل على مجهول ،ولاحول ولا قوة إلا بالله! العودة الجديد يصلح لأن يكون أعتى أعداء العودة القديم وأشرس خصومه، امتناعه عن نقد فكره القديم بوضوح، وقد قال أنه تغير، أحجية كبيرة، والأحاجي  دائما ماتثير الشبهات، الا حينما تكون بغرض التسلية!
لو كنت رأيت مخالفيك اليوم ياغازي، يغيرون فتاويهم، نفس الفكرة التي ذكرتها في ذلك المقال الذي كتبته في الشرق الأوسط وسردت فيه أمثلة كثيرة، وذكرته في كتابك، واستبسل وتبذّل عايض في رده عليك كما ذكرت، لو كنت رأيته فقط: " برايسلس"، كما كنت قد تفكر. شعور الحق الذي يظهر بعد حين، بعد أن تحارب من أجله، شعور جميل، احتفال ذاتي صغير، لا تذكره لأحد، ولا تفاخر به، ولا تذكّر به!
صارت فتنة ياغازي كما حذرت مازالوا يتسيدون المشهد،ولم يردوا على كل ما كتبت، وبنوا على اللبنات الأولى التي رأيتها، نعم نعم تلك المائلة ذاتها، وكنت تفكر ربما، أنهم سيعدلون هذه اللبنات،يسحبونها ويعتذرون، وتستقيم الأرض من جديد، أو أنكم ستشتركون سويا في بناء سليم حينما يأتي علماء المسلمين الذين ناشدتهم في الكتاب عينه، وتستقيم اللبنات ويصعد البناء! بنوا عليها بميلانها الذي رأيته، ليتك تشاهد المشهد الآن، البناء مائل وآيل للسقوط، لكن سقوطه الآن لن يضر ساكنيه فقط بعد أن ارتفع بهذا الشكل، سقوطه سيؤذي الجميع. تخيل ياغازي، أن أحدهم من أعلى سطح البناء هذا (٢)، كان يقول أمس بأنه دعى عليك بالسرطان، وأنك أصبت به والحمدلله، وأعطى خلفك الوزير مهلة شهرا قبل أن يدعي عليه، وقال أيضا بأنك تراجعت وتبت لكنه دعا الله بأن لا يرفع عنك البلاء، ربما كان مختلا كما قد تخمن لو رأيته، لكن المشكلة أن أصحابه الذين امتلأت بهم الكراسي، كبروا ربهم ،ودعوا له بأن يبيض الله وجهه! وصوروه بكاميراتهم تصوير المنتصر الشجاع، الناطق بالحق.
الفتنة ياغازي، قسمت بحرنا الاجتماعي، كعصا موسى، إلى قسمين، بموج غاضب متوثب، يتسكع بعضنا في الأرض الفاصلة،حيث تدوسنا الأقدام، وتصب علينا لعنات الجانبين كليهما،حتى حين. كل فريق بما لديهم فرحون، أتذكر الحديث الصحيح الذي ذكرته في كتابك: 
"ان الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل "ليعمل عمل أهل النار فيما يبدوا للناس ، وهو من أهـل الجنـة ـ متفق عليه ـ

هناك شيء يسمونه تويتر الآن، يقسّم شتائم المقالات القديمة، والأشرطة، إلى قصاصات بمائة وأربعين حرفا، مختزلة، لتشجع على سوء فهم أكبر، لو كنت موجودا الآن لربما تسليت برؤية هذا الحديث  الصحيح، تذكره  مثلا، ويعاد تدويره (أو يعاد تغريده) من مخالفيك ليقصدونك به. أتذكر معاركك معهم عن التلفاز، ليتك ترى التلفاز الآن والفضائيات! هم يظنون أنهم، يتفوقون على مخالفيهم دائما ويزرعون الكره في المتحررين أو التقدميين أو الليبراليين، يطلقون أسماء جديدة كل مرة، بالمناسبة، لقب علماني خرج من الاستخدام الدارج الآن وتم استبداله، لم يعد مثيرا وصادما كما ينبغي للقب يُستخدم في الإقصاء أن يكون. هم يظنون أن هؤلاء أعدائهم، لكن ليتهم يعلمون كم فاضل متتبع لسنة المصطفى ، مؤمن ، ورع، يحتسب عند الله مخالفاتهم، ويحزن في اليوم ألف مرة لرؤيته لدينه وهو يختطف بهذه الطريقة، ويؤلمه أن يظن الناس أنه بخندق واحد معهم، بسبب مظاهر الصلاح عليه! 
لو رأيت تويتر ياغازي، كنت سترى الفكرة الطارئة الحقيقية ،عارية، قبل أن يتم حذفها،كنت سترى الغضب يصرخ كمولود،في لحظة خروجه من رحم الحدث، كنت أيضا سترى الصحافة التي دافعت عنها حينما حدثت العودة الذي قاله أنها مسيسة، تتعرى بأصابع تويتر. لا أظن أنه يضيرك أن تعرف أن حديثك لم يكن حقا مطلقا بالنسبة لهذا، أظنه قد يسرك مثل هذا الحوار، كنت تسوّق لفكرة الحوار المنطقي، بغض النظر عن النتائج وكان العمر يحرمه، ويوضح خطورته، وكنت ترد، تحشر دهشتك في علامات تعجب عديدة: " 
؟! مبدأ الحوار خطير ؟! مبدأ الحوار خطير يا أخي ناصر العمر !"
" لم تخاف الحوار ؟


لو رأيت تويتر ياغازي، وكمية التضايق من الأفكار، تصادف كل يوم غضبات وهبات لأشخاص تصادم عقولهم قلوبهم، بالضبط ، كما يفعل الهندي الذي ينحني كل يوم أمام البقرة، حينما يجد نفسه تماما أمام مزرعة ما في الدينمارك تنتج الزبدة والحليب، يسب المزرعة والدينماركيين، والحليب، والشاحنات التي تنقله، والبقالات التي تبيعه، ،والشعب الذي يشتريه، دون أن يتساءل: "هل البقرة ربي ؟"، فقط يجد في التعامل معها كحيوان مدر للحليب أمرا فظيعا، يثير به نوبة غضب هائلة، ولو لم يقدس بقرته بهذه الطريقة لما غضب، أو لو قدس شيئا يقدسه الجميع لما غضب  ، أيضا ، ولما أغضبهم !

كنت سترى في تويتر ماتفعله الدوائر الصغيرة المختبئة خلف أجهزتنا المحمولة الجديدة، تُعرّي المشهد، قطعة قطعة، بضغطة في كل مرة ، لم يخمن أحد أنه كان يلبس كل هذه الملابس،حتى تهاوت كل هذه القطع دون أن يعرى تماما. ستستمر الدوائر بالاستجابة للضغطات، وسيستمر الحوار بغض النظر عن عدد أطرافه، وسنستنبط من شدة الظلام،  الظن المتفائل الوحيد، الذي يشبه "كليشة" حالمة:  ربما كان الفجر قريبا.
رحمك الله ياغازي.


---
-(١)كتاب: "حتى لا تكون فتنة" متوفر الكترونيا، يمكن مراجعته للمهتم.
-)٢(، في لقاء المحتسبين بوزير العمل، المقطع المرئي :







الخميس، 1 نوفمبر 2012

عدسة الانفجار من تورنتو إلى الرياض: نظرة فاحصة







انفجرت شاحنة في طريق عام، في شرق الرياض، هرعت إلى الهاتف مفزوعاً، كي أطمئن على أخي الذي يذرع كل يوم بسيارته الطريق الموجود في الصورة متوجها إلى مستشفى الحرس الوطني من بيتنا القريب، تلك الصورة التي أطرها الدخان الأسود في أعلاه، وتصاعد في وسطها لهب، يشبه ذلك الذي نراه على شاشات الأخبار، ونتمتم بطرق مختلفة جدا، تقول كلها تقريبا نفس الشيء ، اللهم، حوالينا لا علينا، يارب، أنت تحبنا أكثر من الآخرين، ولن نخبر أحدا بذلك، بل سنخبئه كسرٍّ في صناديق قلوبنا المغلقة، ونتأبطه كشيء لا يُخشى فقده ونحن نرفع أكفنا بالدعاء لساكني دول أخرى لا تحبهم كما تحبنا. كان طريقا لطالما طرقته ذلك الذي يثير الحزن والهلع وتعاطف الغرباء، ذلكم الطريق، نجم تويتر الأوحد اليوم، كان صديقا قديما، نمنّي بعضنا، أنا وهو بالوعود. 
جاءني الخبر وأنا أتهيأ للنوم في شقة كندية بعيدة، لا يصلها بذلك الانفجار، سوى ذاكرتي وقلقي. مضغ لسان عقلي ما حصل، كعلكة طوال اليوم. وجئت لأكتب، وكما يقول الغذامي في تعريف نفسه في تويتر، أعرض رأيي ولا أفرضه، سأتساءل بشأن ما حصل، وأتساءل بشأن ردود الفعل، أزعم أنني سأصنع مجسما صغيرا يشبه تركيبة "ليقو" البلاستيكية، بقطع تداولناها كثيرا في أحداث مختلفة، وأعدك- ولو بدا ذلك وعدا جريئا- بأنني سأمنحك عدسة، وأي شيء يقدر عليه الكلام سوى أن يوزع العدسات، ويحسن الظن بالأعين!  تستطيع استخدام هذا المجسم لتتخيل بواسطته ما الذي يحدث في المجتمع الكبير. يهمني هنا أن نعرف أين نقف جميعا بخصوص ذلك الانفجار ومايشبهه من الأحداث، أدعوك هنا لأن تتساءل معي، أين نقف، هل نحن الجمجمة التي لايهم الآن  لون جلد صاحبها بعد أن أصبحت بيضاء ،والتي تفحمت في سيارة لايهم لونها الآن بعد أن أصبحت سوداء واحترقت بلا مقدمات، هل نحن الشبان الذين تجمهروا للسرقة في نفس الوقت الذي كان به آخرون يلفظون أنفاسهم، هل نحن المتجمهرون، أم نحن الذين تضايقنا من التجمهر؟ هل نحن التجار -تجاوزا- الذين يزرعون قنابل الشاحنات الموقوتة في الطرقات، لتوفير ثمن إجراءات سلامة لا يحتاجونها شخصيا.من نحن بالضبط؟ أين وقفنا؟ وتحديدا، من أنت، وأين تقف، وما هي علاقتك بما يحدث؟
لاشك في أنك قد لاحظت، الطريقة التي نتجمع فيها على قصعة الأحداث، والطريقة التي يستخدمها كل تيار فكري، ليكتب رأيه بحبر دماء قد نزفت،  ويصرخ بالناس من خلال بوق الحدَث الجديد، ويتسلل من نافذة الخبر ليتزحلق في تلافيف الآذان، ويستغل اللحظة التي تتسمر فيها أعين الناس على تلفاز الأخبار، ليمارس رقصة بهلوانية سريعة،كإعلان رديء مدفوع، في وقت إعلان وفاة رئيس تسمر الناس أمامها مثلا! لاحظها من لاحظها وصفق من صفق وامتعض من امتعض!
فالحقوقيون،مثلا يتحدثون عن سوء الصيانة، وسوء العناية بالأمن، وسوء الاستعداد للكوارث، من خلال الانفجار. والإسلامويون يتحدثون عن القضاء والقدر، يرصون الشعب السعودي من جديد في صفوف السنة الإبتدائية الخامسة، ويحدثونهم عن الإيمان بالقضاء والقدر وكأن الانفجار جرس لبداية الحصة الأولى، لدرس تقوية إضافي، في الساعة السابعة من صباح الخميس عن القضاء والقدر، وأيضا يتحدثون عن عاقبة الانحلال، وابتلاءات الرب، والساخرون يتحدثون، شامتين بدورهم -وياللسخرية- في شماتة السعوديين بإعصار ساندي، والمواطنون الغاضبون، يتحدثون عن المستوصف الحقير -بتعبيرهم- الذي رفض علاج مريض وعن أن الناس يجب أن لا يشكروا مستشفى الحرس لأنهم يفعلون الواجب فقط! قضيتهم، تخيل، هي أنه لا يجب شكر من هرعوا إلى المستشفى في يوم إجازة لعلاج المصابين! والمواطنون الغاضبون أيضا، يتخيلون حيواتهم على كفوف العفاريت، ويغضبون من كل شيء، بواسطة الإنفجار! وأي شيء أفضل من انفجار ليفجر الغضب! والليبراليون، ربما تحدثوا عن أن الحياة قصيرة، وأن التضييق على الناس في ممر الحياة، الذي يتخطف الناس للعالم الآخر فجأة أحيانا، يبدو أكثر إغضابا الآن.وهناك أيضا من يذكرونك بالموت الذي يأتي فجأة.  والعريفي، نسيج وحده، الذي سمعت أحمقا من متابعيه يوما يقول بأن متابعيه أكثر من متابعي الرسول صلوات الله وسلامه عليه، شرفه الله عن مثل هذه المقارنة البلهاء، يرسل تغريدة عن إعجابه بذلك الرجل الذي يظهر في مقطع مرئي يذكر الشهادة وهو ينزف الدماء، قال عنه بأنه "أعجبه" لأنه لم يسب أحدا ولم يصرخ! والغريب أنني أتذكر أنني رأيت الشيخ من قبل يسب أحدا، ويصرخ، ولكن دون دماء وببشت مذهب مزركش! والمبتعثون، يتحدثون عن الشاحنات النظيفة في بلاد "الكفار"، وعن إعصار ساندي المدمر الذي قتل وأصاب عددا قريبا مما فعلت شاحنة واحدة، فاض بها الكيل، في طريق خال منسي، قريبا ربما من المكان الذي أخذ إليه هشام ابراهيم العابر، بطل رواية الشميسي حبيبته قبل عقود، في الساعة السابعة من صباح الخميس، يوم الإجازة الأسبوعي. 
ولا نستطيع هنا ، أن ننسى نوعا آخر، يتسلق على سلالم الأحداث، المتحذلقون، الذين يفعلون كما أفعل الآن بالضبط! أنا أتحذلق هنا إذن، وأدقق في زوايا الأحداث، وأقترح عليك ضمنا أن تتبنى زاويتي، وتقف حيث أقف، وفي اقتراح مثل هذا، مايلمح ضمنا إلى أن هناك ما فات على الآخرين واكتشفته، وفي مثل هذا ما يزعج ويثير الضيق أعلم ذلك، ولكنني أعول كثيرا على كرمك في أن تؤجل حكمك حتى تنهي قراءة هذا النص، وسأتفهم موقفك جيدا-بصدق- لو قررت أن تتوقف الآن عن القراءة، فأنا في نهاية الأمر أقف في الحيز الضيق، بين عقلك والحدث، بين وعيك ولا وعيك، كل ما سيتطلبه الأمر نقرة على الزاوية العليا، لتغلق هذه النافذة، لا أحاول أن أتطفل عليك هنا،ولست أحاول اتهام أحد؛ أثرثر،وأتمعن في التفاصيل، أنصب مرآة، وأشاركك بما أظن، لتسعدني برأيك، لأفتح نافذة، وألقي بعض الماء على الانفجار، وأقلل من قلقلي ، وقلقك في مركبنا المشترك! 
المسألة الأولى التي يجدر بنا مناقشتها هنا، ماهي حكاية الهجوم على قصعة الأحداث بهذه الطريقة، كأحداث الانتحار، وانفجار اليوم! الحدث نفسه،نفسه تماماً يتم استغلاله من زاويتين مختلفتين، لتحقيق انتصارات"فكرية" -إن صحت العبارة-، فالمنتحر كما يقول الإسلامويون، نتيجة لما حذروا منه من البعد عن الدين، أو كما يقول الليبراليون نتيجة للكبت وكما يقول الحقوقيون نتيجة للبطالة،لكن الحقيقة، حقيقة انتحار ذلك الذي سقط من الجسر قبل أشهر، تربض الآن في قبر ما، في مخ ما، وربما في هذه اللحظة تحديدا، تنهش دودة جائعة خلايا الفص الأمامي التي خططت لعملية الانتحار تلك! يستحيل -منطقيا على الأقل- أن يثبت نفس الحدث فكرتين متضادتين تماماً، وتستطيع، هنا، أن تطلق لخيالك العنان بشأن ما نصدقه، وتؤكد لنا الأحداث يوما بعد يوم، صدق ما ذهبنا إليه قبلها، وأكدته لنا فأضحى حقيقة لا سبيل لزعزعتها أو تغييرها!   على أية حال، القفز على موائد الأحداث من الجميع-كما أفعل بدوري هنا- دليل جوع، وغضب، كما أرجو بأن تسمح لي أن أقترح، الأمر يشبه أن نقيم برلماناتنا الخاصة في الشوارع لنجرب فيها أصواتنا، المسألة تشبه أن يخلقنا الله ملاكمين، ونبحث عن حلبات ونكتشف أننا بلد بلا حلبات! فنأخذ نزالاتنا إلى الشارع، شارع تويتر، والشارع الحقيقي أيضا كما حصل اليوم، ننهب سترات صفراء فاقعة لا حاجة لنا بها، لنعلن عن غضبنا، ونصوّر من ينهبونها بهواتفنا، لنعلن عن غضبنا أيضا، نتجمهر لنعلن أن فضولنا لرؤية مايحدث لروايته في استراحة ما تلك الليلة، أهم بالنسبة لنا من حياة آخرين لا تعني حياتهم لنا شيئا، نذم المتجمهرين، وكأنهم هبطوا من مركبات فضائية، ربما تحدث اليوم من تجمهر في تويتر عن همجية المتجمهرين! في صورة كاريكاتورية تتكرر كثيرا في مجتمعنا،تشبه تذمرنا من سوء القيادة، وفوضى الطوابير، والواسطة، والفساد!
هذا الهجوم على الحدث، وخطفه - إن صح التعبير- لإثبات أفضليتك على تيار فكري آخر، توجه آخر، شعب آخر - كمثال على نقطة الشعب الآخر، رأيت في الأصوات المتحدثة عن مآسي الدول المجاورة، وأن هذه لمحة من انعدام الأمن وصعوبة الحياة، صوتا نشازا، مازال يعتقد بأن هذه البلاد لسبب ما لها قدسية لا تتوفر لدى البلاد الأخرى، وكأن أجدادنا لم يموتوا من الجوع قبل مائة عام فوق نفس هذه الأرض التي نقف عليها- أقول أن هذا الهجوم على الحدث، يشبه تلك الكرة البلاستيكية الحمراء التي ترقص فوق قِدر الضغط الذي نستخدمه لطبخ الأرز عند فتحة الهواء، لا نرى شيئا يتحرك في القدر سواها، لكنها، كما نعرف جميعا، تعبير عن اضطراب مافي داخل القدر، وزيادة ضغطه، وفي كل حدث، تتغير ألوان الكرات، لكن الرقص المضطرب، المرتعب،المرتبك هو ذاته. إذن، يبدو خطف الأحداث هذا كتفريغ للغضب، وتجربة للصوت، وكمخرج سهل للهواء المضغوط، وهذه هي النقطة الأولى. النقطة الثانية لتفسير هذا التخاطف، تتعلق باختفاء الحقيقة، والمصدر الموثوق،  تختبيء الحقيقة كلاعب "حبشة"  مملّ بشكل فظيع، اختفى طويلا، ثم خرج، دون أن يتذكره أحد من اللاعبين، كأنه حين اختفى تحول إلى خرافة، هناك من اللاعبين من أشار إلى شخص من المارة وادعى أنه اللاعب الذي اختفى منذ سنين،  اختفاء اللاعب طويلا،حوله إلى خرافة، فاخترع الجميع قصصهم الخاصة، قصص تجعلهم يظهرون بمظهر الفضلاء والصابرين، قصص تجعلهم أحبة لله، وخاصته، تجعل انفجاراتهم وكوارثهم ابتلاءا من الله لعبيد يحبهم، وانفجارات الآخرين وأعاصيرهم، عقابا من الله مستحق! 

من نحن، وأين نقف من كل هذا؟ هل يختلف الذين تسلقوا الجبل عن الذين قضوا نحبهم؟ أحد المتسلقين لجبل النهب الذي رأيناه، كان من الممكن أن يكون أحد الميتين الذين نترحم عليهم الآن، أو أن يكون أخاه -مثلا- من المصابين، فيلبس لبوس الحزانى الفاضلين، لأنه وقع -قدرا- في الطرف الآخر من المصيبة! في الطرفين، طرف المعتدين، وطرف المعتدى عليهم، أناس يتشابهون أكثر مما نظن!
من نحن؟ وهل ساهمنا بشكل أو بآخر، في انفجار الشاحنة؟ ربما يمكننا أن نلاحظ في هذا السياق، أن جميع الشاحنات التي تجوب شوارع البلد، متهالكة، قارن بينها وبين سيارات الشعب! لا أذكر أنني رأيت سعوديا يقود شاحنة نفط، يبدو هذا العالم، عالم الشاحنات، كعالم أسطوري بالنسبة لنا، وكثيرا ما أتخيل، عند رؤية شاحنة مقلوبة، منظر ربما رأيته أنت كذلك، أن سائقها خاله رب عمله دمية، كتلك التي تضعها مصانع السيارات، داخل سياراتها في اختبارات التصادم، والتاجر، بغض النظر عما ينقل في شاحناته، يخاطر في موضوع السلامة، لكنه لا يخاطر بحياته هو، يخاطر بحياة شخص أخر لم يخوله ليفعل! لا أعلم عما ستنتهي إليه اللجنة التي ستحقق في موضوع الانفجار، لكننا لانستطيع إنكار الخلل في معايير السلامة الذي نراه كل يوم وعلى كل طريق، ولا نستطيع أن ننكر أننا لا نفكر كثيرا بهذا الخطر إلا في انعكاساته علينا، كمقال سليمان الفليح الذي تناقلوه حيث تنبأ بخطر الشاحنات "علينا"، ولن ننكر أنه لو اتفق جدلا أن يكتب هندي ما مقالا مترجما في الجريدة عن تذمره من هذا الخطر المحدق، لانبرى نفس الأشخاص المتضايقين مما فعل الانفجار اليوم، لذم وقاحته! وهم نفسهم ربما ، الذين هز غازي القصيبي رأسه يوما ما في مقابلة مع الدخيل، متحسرا، وهو يقول: "هؤلاء لا يعلمون عن ماذا يتحدثون!" كان يتحدث يومها-رحمه الله- عن المطالبات بتحديد سقف أجور للسعودي، يختلف عن الأجنبي، قال القصيبي يومها بأن هذا مستحيل، وبأنه سيكون وصمة عار في بلد تنتمي لمنظمة التجارة العالمية، ومات القصيبي، وطرزوا بعدها بشتا سعوديا أصيلا،يلبسه السعوديون فقط، بثلاثة ألاف خيط ذهبي!
أما عن، مسألة عدم اهتمامنا بموضوع السلامة، ومسألة الحذر، والاحتراز من الخطر قبل وقوعه، فهذا حديث يطول، ولكن ما دمنا نتحدث عن دور المجتمع في هذا، أستطيع أن أخبرك بمقارنة سريعة، عما أعرف، عن تخصصي، حيث أنني لا أفقه شيئا في سلامة الشاحنات؛ قضيت خمس سنين ونيف في كندا أتدرب وأمارس الطب النفسي، وتذهلني تماما الادعاءات الفارغة بخصوصيتنا، والدجالون الذين يخرجون أرانب أفكار يدعون أنها "علوما"كل يوم من قبعاتهم على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز، يختصرون الطرق، بما يضر الناس، بنفس الطريقة التي يعالج بها عامل هندي بإقامة مزارع كفرات شاحنته دون تخصص، لتتحرك فقط، وكأن بقية العالم -عدانا- يتكون من حمقى ومعتوهين، يضيعون وقتهم وأموالهم في التدقيق في أمور لا تلزمنا، يصدرون تنظيمات لانهائية تتعلق بقوانين العمل، وبشروط قيادة الشاحنات، والطرق التي تعبرها، وأوقاتها، وحمولتها، ويقيدون رخصها، ترفا وتضييعا للوقت، يحدث هذا بالضبط بنفس الطريقة المدهشة تماما التي ينسف بها معلم جغرافيا أخذ دورة في تطوير الذات، كل تعقيدات وأبحاث، ومجلات، وكتب علم النفس مثلا، وهو لم يقرأ من كل ذلك حرفا واحدا ! ومادمنا نربط هذين الأمرين هنا، يتبقى أن أقول بأنني، تخيلت عدد من هشم ذلك الانفجار أجزاءا منهم، وممن سيصابون باضطراب مابعد الصدمة، كم منهم سيذهب إلى شيخ فينهره على قلة إيمانه بالقضاء والقدر، وكم منهم سيتصل بمستشار ليتحفه بنصائح الجدات،  وكم منهم سيذهب لمدرب تطوير فيرقّصه على خط الزمن ، وكم منهم سيغلق أبوابه، وينتحي ركنا قصيا عند ما يشبه فتحة الهواء في قدر الضغط إياه، ينتظر الكرات، لينفخ بقسوة متى لاحت في الأفق، حتى ينفجر!
الانفجار كان هناك، حيث نحن، وقد كان قضاءا وقدرا بالطريقة التي يكون بها التهام أسد لساكن كوخ في عمق الغابة قضاءً وقدرا، وبالطريقة التي تداس بها الألغام، وبالطريقة التي يقدر الله لك فيها أن تبتل حينما ترى المطر في النافذة وتخرج. القضاء والقدر، تلك السلة التي أودعناها أحباء تترى غادرونا، يقتلهم مفحط سكران، أو مراهق أرعن، ونودعهم سلة القضاء والقدر. فقدت جدتي، واثنان من أبناء عمي، وأصدقاء كثر على الطريق،  في المرة القادمة التي يخبرك فيها أحد عن قضاء وقدر يقع بأيدي الناس، اصفعه بيدك، وأخبره أن هذا كان قضاءً وقدرا. 

يتفطر قلبي على هؤلاء الذين غادرونا، نعم، قد أكون بعيدا، لكن قلبي هناك،في الرياض، قريبا من كبري الحرس إياه،  وهذا الانفجار نافذة لمستقبل مريع، كم يبدو سخيفا أن أحاول بهذا النص الطويل، إصلاح النافذة أو إغلاقها، لا ريب أنني قد خسرت قراء كُثر في الطريق الطويل إلى هنا، لا أتخيل أن يكون أحدا كريما بما يكفي، ليقرأ قصة طويلة عن محب لايعرفه، يتحدث عن اغتصاب حبيبته المروع، في بلده البعيد. تزحلقت من نافذة الخبر إلى تلافيف أذنك بما يكفي، فعلت ما يفعلون، واقترحت-كالجميع- بأنني أدرك ما يحصل،و الحقيقة أنني أفضل أن أكون غبيا جاهلا، على أن أكون محقا، عارفا في هذا الشأن! أتمنى بصدق أن أكون مخطئاً هنا، ليحفظنا الله وليلطف بنا،وليسامحنا على ما اقترفناه، وما نقترفه، ياصديقي الطيب!


متعب حامد
١ نوفمبر ٢٠١٢

الاثنين، 16 يناير 2012

في وصف كلمة واحدة: لعبة (بزل) من أربع قطع !






"تحبس أنفاسك وأنت تهوي على منحدر الوجع، تعود فيما يشبه دائرة لتراجع الموقف،ثم تنطوي على نفسك ،محتميا بتحليلك الذهني للموقف،وكأنّه مظلة تحميك من مشاعرك، تنشر شراع "الكاف" فوق ظهر مشاعرك المتقوس لتمعن في الاحتماء. تتجه بعدها بعينين دامعتين إلى السماء،كمبتهلٍ يزم شفاهه ويفتح بوابة أجفانه المغلقة ويقدم "بياضه" كتسوية أخيرة، وربما اتجهت إلى هناك غاضباً كرجل أزعجه بلل المطر فاتّجه إلى مصدره لينهي المسألة،تصعد، تصعد، كراكب أفعوانية يحسّ بالإثارة في أذنيه. تهدأ بعد أن تدرك بأنك لن تخرق الجبال طولا، تنزل بعدها، تدريجيا، كمُحاربٍ عائد، (يتمخطر) بلا اكتراث وقد جرّ سهمه الذي لم يستخدمه ليخط أثرا في التراب، تعود أدقّ مما كنت، قد انطبقت أوداجك الغاضبة المنتفخة على بعضها، تملّ من هذا النزول التدريجي المهين، تقفز بعدها على السطر لتتكيء عليه، في سكون و دعة.ك (همزة) بين الكتف والرقبة. يستمر ما تحس به في النحول، حتى يتلاشى. "

كيف بربكم يمكن للوحة المفاتيح أن تنقل شيئا من هذا .. ؟ .

نص كهذا يبعث على الراحة، هي كلمة واحدة فقط، من أربعة أحرف ، ولكنني لم أحتج للتخلي عن شيء طرأ على بالي بشأنها، لم أضطر للفّ معانٍ مهمة بورق أبيض لدسها تحت مراتب الكلمات، هذا النص يشبه مباراة من ثلاثين ثانية تهندس فيها انتقال الكرة بشكل سلس يبعث على الرضا،بدلا من ركل الكرة بالكعب دون اكتراث في مباراة لا تنتهي. يشبه ما فعله (ايريك كاندل) الحائز على نوبل حينما قضى وقته يفتش عن قلق حلزونة صغيرة في خلاياها التي يستطيع أن يعدها، ويحصي التشابكات العصبية التي يمكن له أن يحيط بها. الحروف الأربعة هنا تشبه لعبة (بزل) بأربعة قطع فقط، ترتبها مرتاحا، حينما تصف أي قطعة من هذه القطع الأربع يعلم الناس عن ماذا تتحدث بالضبط!

لكم أودّ لو كانت كل خيوط الأفكار تنسلّ من قلمٍ يدور كبكرة لثانيتين ويتوقف. لو كانت كل سلاسل الأفكار توضع في صناديق نصوص واضحة المعالم كهذا، الحياة مليئة بلعب (بزل) من مائة قطعة، وألف قطعة، ومليون قطعة! وحتى حينما ينبسط مزاجك بما يكفي لبسط هذه القطع على الأرض، ستنشغل بمحاولات لوضعها في مجموعات رباعية صغيرة ، محاولات لا علاقة لها باللعبة الأصلية على الإطلاق، فقط لكي لا تلعبها وحيدا! لأنها لعبة توشك أن تكون بلا معنى حينما تلعبها وحدك !

هذا النص يبعث في داخلي شعورا غريبا. مبتسما، أحضرت هذه القطع الأربعة، فردتها هنا، وللمرة الأولى، أحس بأنني سألعب! كطفل ينهض من الزاوية،يحمل لعبته ويتجه إلى رفاقه بحماس بعد أن وجد طريقة يخبرهم بها بأن اللعبة التي كان يلعبها هناك، في الزاوية، ليست مملة وغبية وغامضة كما كان يبدو!

عزيزي القارئ: لو تكرمت، إقرأ هذا النص جيدا!


أتاوا
يناير-٢٠١٢

السبت، 24 ديسمبر 2011

كريسمس سعودي في كندا، بطاولتين






تتجاهلني المدينة ، دون أن تقصد. تغلق جميع الأبواب. أقف خارجها لأفكر كيف يشعر الغرباء في يوم عيدنا في الرياض.

أغازل أطراف مشهد الكريسمس بعبارات لا أعرف ماذا تعني بالضبط ، يقولونها لي وأمضعها لألقمها لهم مجددا خالية من كلمة الكريسمس ليرضى ذلك الطفل الذي علموه بأنه لا تجوز معايدة أهل الكتاب بأعيادهم. "أيام مقدسة مباركة" ، أو كما سأدعي لو حاجّني أحد ، إجازة سعيدة. أعابث الأطراف ولا أتوغل في المشهد. أسمع العبارات باهتة من الداخل البعيد، وأظن جازما بأنهم يسمعون عباراتي المبتسمة باهتة بعيدة من رجل يتفرج عليهم دون أن يدلف الى الداخل.

الليلة ليلة الكريسمس. تطفئ المدينة أنوار الشوارع.تلمها، مصباحا مصباحا، لتخبئها في البيوت. كأصابع جدتي حينما تعبث بالسجادة، وتلمّ وبَرَها في لحظات سهوها أثناء حديثٍ هاتفي، تلمّها من المنتصف، وتوزعها على الأطراف. تتخبؤ الأنوار في الأطراف قادمة من المنتصف كتَلٍّ تبعثره ريح عاتية يصفق لها الناس، يتهيؤون لقدومها، ينتظرونها بشوق. وتقف أنت أيها الغريب هناك، لا تصفق لشيء، تبارك لهم قدوم الريح، و لا يهمك من الموضوع سوى ذلك التل الذي اختفى فجأة وتركك في صحراء موحشة.

تهيم باحثا عن قهوة لم تغلق أبوابها. عن مكان مضاء كشجرة. عن لسان يلعق بكلماته غبار وحشتك.عن طريق. 

تبحث عن وطنك الذي مر عيده الذي يعنيك وانتهى ، تود أن “تحتفل” معه بيوم عادي ، تفتش عنه على أوجه الشاشات الملساء، تفكر أنه كلما زادت هذه الشاشات نقاوة كلما أرعبتك تفاصيل وجهه ذلك الذي حسبته جميلا حينما رأيته بشاشات قديمة. تبحث عن نفسك بين الوطن الذي لا يعنيك، ويستثنيك من الفرح، والوطن الذي يعنيك، ويبعثك على الحزن. تفكر في خطأ أن تفكر في أن العشب على الجهة الأخرى أكثر اخضرارا. وتود أن تحلف - للائميك المحتملين، المصطفين في زاوية عقلك كهيئة محلفين- بأنك لم تنتبه حتى لدرجة اللون، أنت فقط مشغول بإيجاد تربة خصبة تصلح للزراعة، لتلوم نفسك بعدها على كل قشة عشب صفراء، إن لم تفلح في زراعة عشب أخضر كما ينبغي. كرجل يقف على طاولتين ظنهما متلاصقتين كطاولة واحدة، كلما نظر إلى الأسفل وتعلم أكثر عن تفاصيل الاختلاف، كلما زحفتا الطاولتان عن بعضهما ، يتصرف خط المنتصف بينهما كعملاقٍ ضَجِرْ، لسنوات وهما تتحركان بخفية. تتمدد رجلاك بزاوية منفرجة، تشعر بأنك قد اقتربت جداً من اللحظة التي ستحتاج بها أن ترمي بثقلك كله في أحد الاتجاهين. تتذكر ما قرأته يوما لكاتب إيطالي يحدّث بأن أباه دوما ماكان يقول له بأن الذي يجلس بين كرسيين ، يسقط بينهما. لم يقل شيئا عن الذي "يقف على طاولتين"، هل ستكون سقطته موجعة أكثر، أم سيتمكن من التحكم بها واتقائها بصورة أفضل؟.

رحل أبي قبل سنتين دون أن يخبرني ما الذي سيحصل حينما أقف على طاولتين. ترك الطاولة اليمنى، التي كثيرا ما ألتفت إليها فأجد جالسا هنا قد غادرها، وجالسا يتذمر منها هناك ، وجالسا يسرقها،وجالسا يتكيء بكفيه عليها ويسترق النظر ليغادر، ومجموعة من الجلوس يعالجون مساميرها وقواعدها، كأنهم سيأخذونها في حقيبة ويرحلون. أخشاب الطاولة اللامعة على اليسار، تجذبني الآن، لكنني أعلم أنني سأشتاق للطاولة اليمنى، التي أشتاق إليها الآن وأنا على مسافة ساقٍ مشدودة.

سأتساءل كثيرا،وأنا أمتليء بالحنين ليوم أبتسم فيه، وأتمتم: قد آن لي الآن أن "أثني" رجلي.



أتاوا
٢٤- ديسمبر-٢٠١١

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

كرات في الهواء، وعداء، وبائع ذرة !




الحقيقة أنني تعبت. تعبت كثيرا. كرات سعادتهم التي تندفع من زنبركات يدي، أصبحت أكثر مما أستطيع أن أحمل. أفكر، في أن أرحل. وهي ما زالت في الهواء، أوجه ظهري نحوها، وأمضي في طريقي، كبهلوان، قرر في لحظة أن يغير وظيفته.
الحقيقة أنه ليس ثمة زنبركات في يدي، وأنني كنت أكذب طوال الوقت. الطفل الذي كنته، حينما كان مراهقا، في ليلة كسولة ما، قال لي ، هل تستطيع أن تسعد شخصا عندما تكبر ؟ قلت له: نعم ، بالتأكيد. قال لي: هل يمكنك أن تسعد شخصين إذن. قلت له أظن، ضحك ساخرا، وماانفك يذكر رقما أكبر في كل مرة، وأنا ازداد شكا، وفي مرحلة ما في المنتصف، قال رقما ، لا أذكره بالضبط، لكنني أدركت أن النقاش أصبح سخيفا، وتوقفت عن الرد. لم يتوقف هو عن الحديث إن كنت أتذكر جيدا، تجاهلته ، وأكملت صنع الدوائر في دفتر كنت قد كتبت على غلافه "دفتر خرابيش" ، أذكر، وقد أكون مخطئا هنا أيضا، أن آخر ماقاله ، كان هل تستطيع، بذمتك، أن تسعد كل من تقابله؟
رمى تلك الجملة، كبقعة حبر هندي ، على ثوب عقلي الأبيض. وما فتئت بعدها، أحمَل نفسي، كرات سعادة كثيرة، أتفنن في القاءها في الهواء، وأحتضنها في طريقها الى الأرض، لكنني الآن أود أن أرحل، أن أتوقف، عملت تقريبا، كل المعجزات التي يمكنني عملها. يداي منهكتان.و عيناي تؤلمانني، وأفكر في أن أتحول إلى كرة.
كعداء، تتغير ملامح وجهه فجأة في منتصف المضمار، يتوقف، يغير الاتجاه الذي يحدق به، يلتفت حتى لا يعيق العدائين الآخرين، يتحول فجأة إلى بائع ذرة وجد نفسه داخل المضمار، يخرج من الخطوط المنحنية المنظمة، يخلع حذاءه، ويذهب ليعيش.

اتاوا
نوفمبر ٢٠١١

الأحد، 13 مارس 2011

الفتنة النائمة



عزيزتي الفتنة،
يقولون أنك نائمة. أقف على حافة سريرك،أراك تكومين أطرافك بوضع لا يصلح للنوم، أتطلع الى رقبتك الملتوية، نومك بهذه الطريقة المفجعة ينذر بكارثة حينما تصحين!. أحاول أن أتحدث معك بصوت خفيض، قبل أن يشعر أحدهم بأنني أحاول إيقاظك فيلعنني. هم يريدونك أن تصحين مفزوعة على صراخ، وجلبة، وقتل. ماذا لو استمتعت إلي، أحدثك بلطف، فتفتحين عينيك، تنظرين الى الحاضرين، تهزين رأسك في رضا يدل على أنه لا بأس في أن يقفوا إلى جانب بعضهم، تلتفتين إلى يسارك، ويمينهم، تقطبين حاجبيك في اتجاه الواقفين هناك، مشيرة إلى أنه لا بأس من أن يتضايق الناس ممن يتسلط عليهم، ويسرق أموالهم، وأنك عادلة، تغضبين بحزم، وعقل، وأنك لن تصرخين كالمسعورة، وتنفثين النار كتنّين في كل مكان.
نومك بهذه الطريقة يوحي بأنك لم تخلدي إلى النوم مختارة، وأن أحدهم، لسبب ما، حاول (إخمادك) كما يقول هو قاصدا أنك كنت نارا تستعر لسوء في ذاتها هي، أو حاول (إخمادك) كما تُخمد الطلقة جسد أرنب، الأرنب، الذي يرسله "صياد" كسول قبل أن يلحقه بطلقاته. السؤال الذي يجدر به، أن يشغل الناس الآن قبل أن يتشاغلوا بنومك، وصحوك، هو: مالذي أتى بك هنا على أية حال؟ إن كان الحق، واضحا، والشر واضحا، مالذي جعلك منذ تاريخ قديم لا يعرفه أحد، تنامين كمتسلل يستلقي على حدود تفصل بين بلدين مختلفين، ويرقبه الجميع بخوف. لا يفكر أحد بأن ينغزه ولو فعلوا لربما اكتشفوا بأنه خيال مآته.
هناك من يهمه أن نخاف منك. هناك من يضع صور العمائم بين أوجه الغاضبين، ليشعرنا بأنك مجنونة تتحدث حتى وهي نائمة فماذا لو صحت. عزيزتي الفتنة، تحدثي! أتعلمين سكوتك هذا هو بالضبط ما يجعل الجميع يعتقد أنك لا تتكلمين دون أن تحدثين كارثة، فكما أستطيع استخدام سكوتك كدليل على نومك المفتعل، ووجودك الكاذب، يستخدمونه ليثبتون أنه ما إن يتحرك جفنيك صعودا حتى يبدأ العالم بالاحتراق. يظنونك جبارا نائما، وأظنك دمية محشوة بالقطن، إذ لا رقبة لشيء من دم ولحم،يصحى وينام، تنعكف بهذه الطريقة. أظنك لا تتحركين بلا أياد تقرص قماشك ، تعريفك يقتضي بأنك من صنع الناس،لا كيانا قائما بذاته، ومع ذلك يتحدثون عنك كقوة تأتي من مكان غريب، ككائن خرافي، كبركان خامد، يتفجر حينما يوقظه شقي ملعون.
عزيزتي الفتنة، سواء كنتِ نائمة، أو دمية مستلقية، لا أظن أن تركك بهذه الوضعية المزعجة يخدم أحدا سوى الواقفين على يميننا ويسارك. ربما تفيقين على صراخ يسد الأفق، وربما تستلقين هناك إلى الأبد، تقرص قماشك المهتريء البشع أياد مختلفة تخيف بك البلاد والعباد. منذ أول يد وضعتك كحديث ضعيف، ولم يتساءل أحد لماذا يوضع مثل هذا الحديث على الرسول. على أية حال لا يجدر بي أن أطيل الوقوف هنا، سأذهب قبل أن يلعنونني.*
* في حديث ضعيف: " الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها"
أتاوا-
مارس ٢٠١١















السبت، 5 مارس 2011

أية احتمالات تنتظرك حينما تدس كف اللغة في قبعة عقلك


أريد أن أكتب.
شيء يشبه الحمى يهبط علي. يجعلني أرتعش، أشعر بالدوار، وأوشك على السقوط إلى حفرة سحيقة. لا أستطيع أن أتعامل معه بأي طريقة. سوى أن أفتح نافذة جهازي. أمد أصابع يدي الاثنتين فوق لوحة المفاتيح دون أن تلمسها، وكأنني أمارس سحرا لا أتذكر أين تعلمته ، تهبط أصابعي مرتعشة في البداية، تمر الدقائق، تبدؤ ألوان الأفكار في الانسياب ، لونا، لونا، في كأس يمتلئ بمياه القلق. تغمض المياه عينيها ، دون أن يراها أحد، تمد قدميها، يبدؤ صداعها بالاختفاء، تلقي بثقلها على الألوان وكأنها تسبح فوقها، في علاقة غريبة لا تتكرر كثيرا، جسد المياه القلق، يسبح فوق الألوان التي ظنت أنها تسبح فوق الماء. علاقة تشبه أن تكتشف أن البحر يحتاجك حتى يسبح فوقك بعد أن ظننت أنه لا يحتاج أحدا.
لسبب ما، بعتقد الناس أن البحر بإمكانه أن يتحمل أي شئ، وأنه لا يريد شيئا على الاطلاق. يحمل سفينة هنا، ويسليَ أطفالا هناك، ويصنع مساكنا لبضعة مليارات من الأحياء، ويستقبل أطنانا من القمامة دون أن يشتكي. يهدر، ولا يعرف أحد ماذا يقول، يرسل أمواجه لتلعق أرجل المارة دون أن يلتفت منهم أحد. تعود تلك الرسل جميعها، مطأطئة ً رؤوسها تفسح المجال لرسل آخرين لا يفلح منهم أحد. وحينما "يبلغ السيل الزبى"، يرسل أمواجا غاضبة، قد تلفت انتباه الناس، ،ولكن ليس ثمة أحد يستطيع أن يفهم ، ماذا يريد البحر أن يقول. أية وحدة أشد من هذه ؟؟
أسلي نفسي بتذكر وحدة البحر حينما أتذكر وحدتي. أنا الذي لا أعرف كيف أرسل أمواجا غاضبة، ولا أريد لها أن تلعق شيئا أو يلعقها شيء، أن يسبح فيها أحد، أو تسبح فوق أحد. لا أملك سوى اللغة،هي الموج، وهي الريح، أحاول أن أنفخها بعيدا في عرض البحر الواسع بعيدا عن الشاطيء، كما يفعل البحر متذرعا بحيتانٍ لا تملك لغة لتفند ادعاءات البحر، ولا موجا لتغضب. لا أملك سوى ثمانية وعشرين قطعة، بسبب معجزة عظيمة جدا يسمونها اللغة، تستطيع أن ترصف هذه القطع بجانب بعضها في وحدات صغيرة، لتصنع ما يعتقد البعض بأنه سبعة ملايين وحدة، ثم تختار من هذه الوحدات ما ترصفه، وحدة ،وحدة، إلى جانب بعضها في تركيبات معقدة، مختلفة، لتجعل الأعين التي تمر فوقها، تضحك، تبكي، تغيّر حياتها،تتعلم ،تنمو، تنحرف،تغضب، تنشرح،تشعر بالاشمئزاز، تستمتع،تؤمن، وتكفر.
أية احتمالات تنتظرك حينما تدس كف اللغة في قبعة عقلك!
اذا كانت القراءة تنقلك من عالم إلى عالمٍ فالكتابة تخلق لك هذا العالم. الخيار بعدها يعود إليك. تستطيع أن تخلق عالما لا يراه سواك. كسرداب سري، يقود إلى مدينة ضخمة مجهولة. لا يملك مفاتيح أبوابه غيرك. تستطيع أن تختلي مثلا ، بالأباجورة التي صنعتها ، تتأملها، دون أن تعكر أذنيك ملاحظة تتعلق بالإسطوانة في طرف الغرفة لتكتشف أن الحديث كان عن الأباجورة. تستطيع أن تتنفس على راحتك في المكان، ربما تغير أثاثه من وقت لآخر، تصنع نجما يشبه الشمس، لكن إضاءته ناعمة، ويضيء على الأشياء التي تلتفت إليه، تخلق قمرا ثمانيَ الأضلاع، وورقة صفراء بدل السماء تخط فوقها حكمة ما، تتغير كل يوم. يمشي الناس على ثلاثة أطراف حتى يضطرون إلى التمهل. يختار البشر أوقات موتهم، وحينما يعبُر طاعنٌ في السن بين أناس يصغرونه يتهامسون عليه، يتندرون على عدم مقدرته على اتخاذ القرار، كما يتندر بشر العالم الحقيقي على عدم مقدرته في الفراش.
تصنع عالما يتبادل فيه التفكير والعواطف الأدوار، تتخذ قرارا فينصحك أحدهم بأن لا تندفع في أفكارك، ويدعوك لأن تحاول أن تترك العنان لمشاعرك قليلا، أو عالما تتحول فيه الرغبات المكبوته، أو الغرائز، إلى الأنا، ويتحول الأنا- بأفكاره الواعية ووظائفه المنطقية- إلى دافعك الأساسي، وحينما تعبر عن فكرة متحمسة، تحتاج لأن تناقشها مع غريزتك، عن طريق الأنا (الأسفل). تغير شيئا واحدا صغيرا، وتبقي كل شي آخر في مكانه، فتحصل على عالم مختلف، هذه الفكرة التي قد تبدو غريبة عندما تصنع عالما جديدا، موجودة في عالمنا الذي نعرفه، في تركيبات الجينات المعقدة، يتغير شيء صغير في مكان ما، فتتغير المحصلة النهائية تماما على الرغم من أن الأشياء الأخرى في مكانها. ترمي عود ثقاب في غابة، فتحولها إلى صحراء وأخشاب محترقة، تستبدل حرفا هجائيا بآخر، فتصنع لغة جديدة لا يتحدثها أحد وملايين الكلمات، تخطو فوق نملة لم تتزاوج بعد فتقطع نسلها حتى نهاية العالم، تحرق نفسك، فيهرب رئيسي دولتين، ويموت المئات، وتصنع التاريخ. كل هذه الأشياء الممكنة فيزيائيا، تحدث، ونصدق أنها تغير كل شيء بعد أن نراها بأعيننا، لكن ماذا عن الأشياء الغير ممكنة فيزيائيا؟
بالكتابة، وبالكتابة وحدها ،تصنع عالما، يرسل الله فيه إلى الأرض ملائكته، ليقضوا بين الناس، في محاكمات علنية، يتضح بعدها كل شيء! أو تصنع عالما ، تُكتب فيه أفكار الناس على جباههم، أو عالم يستطيع فيه الناس أن يقتلوا بعضهم بلا تبعات، وتتفرج علي ما يمكن أن يحصل، أو عالم يستطيع كل فرد فيه أن يعود طفلا إذا رغب، دون ذاكرته، أو عالم، كالذي صنعه جوزيه ساراماغو، يصاب جميع الناس فيه بالعمى، ماعدا شخص واحد.
تنفخ في عرض البحر، وتتمدد على فُرِش سردابك. تصنع كل هذا دون أن تطبع منه بضعة آلاف نسخة، كل واحدة منها صورة لما رأيت، تحاول أن تحاكيه، ولكن ليس تماما، تراها بأيدي الناس في الشارع، تتغير الصورة، تصنع منها كل عين مختلفة صورة مختلفة، ثم تحاسبك على هذه الصورة المتخيلة. يدس الناس أنوفهم في أنفاسك. يتسكع غرباء لا تعرفهم في أزقة مخك الضيقة.
هذه هي قضيتي، باختصار، أعشق الكتابة، وأخشى أن أصنع مجسما لمخي، تعبث به الأيدي، ويصنع صلصال أعينهم مجسمات يظنونها تشبهه، وفجأة أجده وقد أصبح لا يشبهني في شيء، تتناقله أيدي الكبار، ويتسكع داخله الصغار.
كرسامٍ تمتليء غرفة الرسم خاصته بألواح نصف بيضاء لرسمات بدأها ولا يعرف ما يصنع بها حينما تنتهي. أجلس على مقعد المرسم، أفكر ، بدلا من التفكير في الرسمة، فيما يمكن أن أفعل من أجلها حينما تكتمل، أخشى أن أخيب أملها. لا أريد أن أتعامل معها بطريقة عملية، أو اقتصادية، لا أريد التفكير في البحث عن مكان لها بعد أن تنتهي، عدم انتهائها يمنحني عذرا جيدا لكي أبقيها، تتكيء على خشبتين، تتصلان في الأعلى ، تتهامسان بشأن هذه اللوحة التي لا ترحل، الإتكاء بهذه الطريقة المائلة دائما ما يوحي برحيل قريب. أفكر في الخشبتين، في كم من الزمن سيتحملان في وضعية الوقوف المرهقة هذه.
أنهض من مقعدي ، أتأمل الألواح البيضاء، وأفكر طويلا، أي مصيرٍ ينتظرها بعد عشرين سنة.

متعب
أتاوا
مارس ٢٠١١





الأحد، 20 فبراير 2011

من مقعد في آخر قاعة المتفرجين، في الزاوية العليا على اليمين






من مقعدٍ في آخر قاعة المتفرجين. في الزاوية العليا على اليمين. أتفرج على مسرحية غريبة، أسميها مسرحية ليس لأن هناك من يمثّل على المسرح، طاقمها صادق بدرجة مربكة، فقط لأنني لا أملك كلمة أخرى تعبر عن مشهد درامي، بضوء يتسلط على شخص ما، قبل أن يسدل الستار، وكلمة تستطيع أن تعبر عن خليط المتفرجين الذين يستقبلون ما يشاهدون بانطباعات مختلفة جدا. تلك المسرحية أبطالها كثيرون. لكل فصل بطل واحد، يملؤ المسرح، ويشغل الناس، حتى لتظن أن ألسنتهم ستلهج بذكرة ردحا طويلا من الزمن. وفجأة، يختفي، لا أستطيع أن أقول بلا مقدمات، لكن بالمقارنة بحضوره السابق الطويل لا تملك إلا أن تحس بأنه اختفى فجأة.
لم يخبرني أحد عن هذه المسرحية، التي أحضرها مجبرا ، لا أعلم من هم أبطالها، حتى أراهم. لا توجد أية إعلانات تخبرك عن بطل الفصل القادم. كل فصل له لهجته الخاصة، إضاءته الخاصة، بل حتى متفرجيه الخاصين، عند بداية كل فصل، يتقدم بعض المتفرجين من الخلف إلى الكراسي الأمامية، ويتبرع الجالسون في الأمام بمقاعدهم عائدين إلى الخلف، يحملون رؤوسا أثقل مما كانت حينما جلسوا هناك. القادمون إلى المقاعد الأمامية يحملون معهم أحيانا لوحات بلاستيكية شفافة مضحكة لابد أنهم أحضروها بسرعه وهم يهرعون للمكان، يرفعونها عاليا، ليرى الناس المسرحية من خلالها. ترى بعض الرقاب في الخلف تلتلف لتتجنب المشهد المشوه وترى المشهد على حقيقته، الغريب أن بعض الرقاب في الزوايا التي تمكنها من تجنب اللوحات، كانت تلتف حتى تستطيع أن ترى المشهد مشوها!
النجاح المدوي للفصل الأول، والفصل الثاني، أربك المتفرجين الذين امتزجت دهشتهم البالغة، بالترقب لكل هذه الإثارة لمسرحية يصلح كل فصل من فصولها ليكون مسرحية ملحمية. الطاقم خلف الكواليس أصبح مثارا تماما. بدأ ترتيب الفصول يختل.انقسم المسرح لثلاثة فصول مختلفة، كلها يستخدم صيحات المتفرجين وكأنها تخصه وحده، ابتدأ الحماس بضخ (الأدرينالين) في العروق. أصبح الناس يرددون عبارات الفصل الأول والثاني، لا يبدو أن أحدا يريد أن يصنع مشهده الخاص، كيف يمكن لمشهد جديد، أيا كان، أن يحصل على نجاح مشابه.
نسبة النجاح الكاملة حتى الآن. مغرية جدا، قد تستمر الفصول حتى لا يبقى أي بطل ليمثل فصلا جديدا. ويرحل كل المتفرجين بعد أن شاركوا في الفصل الذي يخصهم. مثل ذلك الذي حصل في المسرحية الشرق أوروبية.
أرى الهرج وأفكر من مقعدي على الزاوية في محمود درويش، وأتخيل شكل (الباتشينو) في تاجر البندقية، وأسمعه يقول:
"أما (للغبيّ)كما لليهوديّ
في تاجر البندقية،
قلبٌ، وخبزٌُ
وعينان تغرورقان.."

أفكر من مقعدي على الزاوية، متى سيأتي الفصل الذي يخصّني، لم يعلمني أحد كيف أقف على المسرح من قبل ولا أظن رفاق جيلي الذين شاركوني مقاعد الدراسة يختلفون عني كثيرا في هذا الأمر. أنا لم أخطط يوما لأقف على مسرحٍ من أي نوع، المتفرجين الذين تسلقوا عتبات المسرح فاتحين صدورهم لكل ما يمكن أن يأتي، هل كانوا على مقاعدهم يخططون لمثل هذه الفرصة أم أن المسرحية الغريبة، التي تستهلك كل تركيزك فلا تلتفت، تستحق مسرحاً غريباً، مسرحا، يظن كل جالسٍ فيه ، أنه يجلس على مقعده في آخر قاعة المتفرجين، في الزاوية العليا على اليمين، يتفرج على مسرحية غريبة.

متعب
أتاوا،
٢٠ فبراير ٢٠١١

*Photo by: Brian Henningsen

السبت، 24 يوليو 2010

السخافة المكتملة المرتبة ، والآسئلة الناقصة العشوائية

























فكر طويلا ،قبل أن يتنهد : آه كل هذه الأسئلة اللا مجابة
!
ربما كانت معضلته في توهم وجود إجابات لها ، فيتخيل أن المشكلة في أنه لم يعثر عليها بعد ، كيف يمكنه أن يكون بهذه السطحية ؟ أو ربما هو ليس كذلك ؟
ماذا عن السعداء في الأرض ؟ هل هم نتاج أسئلة عميقة أمكن لها أن يجدوا لها إجابات مرضية ؟ أم هم أناس لم يتساءلوا يوما عن شيء ، مضوا في طريقهم دون أن يحملوا الأمور أكثر مما تحتمل ، تجاهلوا كل هذه الأشياء التي يحاول هو أن يغرق داخلها .
هل يتعاملون مع تلك التساؤلات التي يحملها كطير ٍ يطير فوق تجمعات للمياه ، فيحط على طرف من أطرافها دون أن تبتل قدميه ، ولأنه علي الحافة ، لا يعلم شيئا عن العمق الذي يمكن أن تصل إليه المياه ، يصل إليها ويرحل ، وهو يعتقد أنها مستنقع صغير ، استطاع أن يتذوق مياهه ، ويمضي ليخبر الجميع بطعم تلك المياه ، وما يعلمه عنها ، وتجربته هناك . يصدقه الجميع.
يصدقونه لأن الغارقين داخل المياه ليسوا هناك ليفندوا مزاعمه ، ولو كان أحدهم في الجوار سيكون مشغولا بما يكفي لكي لا يتمكن من الحديث مع طير صغير لا يعلم شيئا .
فينتهي الحال بذلك الطير ، وقد رضي عن نفسه ، يتحرك من بقعة إلى أخرى ، يطوي الأفق سريعا ، بلا تعقيدات ، ولا أسئله
كيف يمكن بحال من الأحوال أن يقارن ذلك الطير ، بنفسه ، هو الذي كان حينما يريد آن يعابث أمه التي تشعر بالدوار حينما يتحرك أحد أمامها كثيرا ،يمشي على الأطراف الأربعة للسجادة في خطوط مستقيمة بدلا من المشي العشوائي ، فقط كي تصبح سخافته مكتملة ، ومرتبة . كيف يتعامل مع شيء أهم من السخافة بقليل ، على الأقل بالنسبة له : حياته
سؤاله المهم ، لا ، ربما أهم أسئلته على الإطلاق : كيف يتحرك في مثل ذلك المكان ؟
هل يلمس المياه سريعا ويرحل ؟ أم يحاول أن يلمس قاع كل بئر قبل أن يمضي في طريقه ؟ هل يحاول أن يفعل الأمرين بأسرع ما يمكنه ؟ أم أنه يحتاج للتركيز على بئر بعينه ، ويغوص فيه إلى الحد الأقصى الممكن ؟
ربما كل ما في الأمر أنه يتوجب عليه أن يتجاهل كل تلك المياه على الأرض وينظر للسماء حيث يمكن أن تكون قد تكونت ، أو ربما يبحث عن نهر قريب ؟ أو أن الإجابة تكمن في اختبار التربة بجانب المياه ، ليعرف ما الذي يصنع مستنقعا ، ومالذي يصنع بئرا ، وما الذي يجعل التربة لا تحمل شيء ؟ هل التربة تحت الماء أفضل أم التربة العارية ، ربما ستفكر الطيور ، وكل تلك الكائنات على حواف المياه بأن التربة تحت الماء أفضل ، لكن التربة العارية ربما كانت كريمة بما يكفي لأن تسمح للماء بالنفاذ ، لم تصد دونه أبوابا يتجمع على مداخلها . ربما حين يفك رموز ذلك يستطيع أن يصنع بركة صغيرة ،يكون أكثر تواضعا من أن يسميها بئرا ، ويرجو ألا يظنها أحد مستنقعا ، قبل أن يفعل ذلك ، لابد أن يتقن المشي على خيط دقيق، يوازنه جيدا بين أن يكون بخيلا بما يكفي لصد الماء وتجميعه ، وذكيا بما يكفي ليقنع الجميع بكرمه.
ربما كان أسهل الحلول أن يجلس على طرف تجمع ما ، ويراقب الطيور التي تحط هناك ، والتي تغرق قليلا ، والتي تغرق أكثر ، ويحتار لنفسه موضعا يتناسب مع" المعدل " ، ويجعل من التصرف الطبيعي ، مبدأً إحصائيا ، يسبح مع التيار ، ويستمتع بذلك الدفء الذي تمنحه الأكتاف المتزاحمة على المنتصف.
ربما كان الحل أن يمشي متنزها ، مستمتعا ، وكأن الماء لا يعنيه في شيء ، وكأنه لا يوجد هناك أي علاقة محتملة بينه وبن الماء ، ينظر أي التجمعات تحيط بها طيور كثيرة ، يتفحص ملامح الطيور في الأماكن المختلفة ، وأين هي التجمعات المزدحمة
يراقب الناس ، والطيور ، يثمن قفزة شجاعة هنا ، وغوصة عميقة هناك ، يبتسم بإعجاب ، ويسجل ملاحظات أخرى عن غباء بعض اللمسات الجبانة ، وتلك التي تقف على الحواف ، يفكر في الكيفية التي يفعلون كل ذلك بها ، ويفكر كيف يمكن أن يفعل أشياء مشابهة بطريقة مختلفة ، يرى عينات متعددة من الأشياء هنا وهناك ، ليكون فكرة أوضح عما يجدر به أن يفعله - يوما ما -
يجرب أن يغوص قليلا ، في بئر، لينسى أنه جربه بعد فترة من الزمن ، يفكر في أنه يجدر به أن يجد بعض الوقت ليعمل خريطة للتجمعات المختلفة ، وطريقة يوضح بها ما قام به حتى الآن ، وما يجب عليه أن يقوم به فيما بعد ، كيف يصبح أكثر فعالية
كاد أن ينسى ، هل يجب عليه أن يجد رفيق سفر ؟ على الأقل ، أحد ما ، ينتظره على الحواف حتى يعود ، فقد يعود مبتلا ، وقد يشعر بالبرد ،ربما يحتاج حبلا من وقت لآخر ، يفكر : يكفيه جمهور من شخص واحد ، لا يشرب من الأطراف، ولا يطير سريعا من مستنقع إلى آخر، كل الغواصين لهم قوارب تنتظرهم ، وقصص الغوص ستكون أدفأ كثيرا لو خبزها اللسان في وقتها ، والأيدي المنتصرة ، المتجهة الي السماء ، تستطيع استعمال كتفين في طريق عودتها، وحبات اللؤلؤ سيسرهاأن تنتظم في عقد لرقبة تثمنها .
يحمل أسئلته في قارورة صغيرة ، ليشرب منها في طريق العودة ، وتتسلق قربة ماء على ظهره، ويمضي.

أتاوا
يوليو - ٢٠١٠