الثلاثاء، 31 مارس 2009

رحمك الله يا جدي



مات جدي .

رحل صامتا بعد أن قتله الملل على سريره . غادر الدنيا هناك في الرياض ، وأرسل إلى كندا حزنا لا يعبأ به أحد  سواي .  خبر ٌ نقله لي هاتفي الصغير الذي حشرت وطني وتاريخي في داخله ، سمعته في الرابعة عصرا وأنا أقلب أحزانا لأناس لا أعرفهم على هيئة أوراق في ملفات المستشفى .  صمتَ لثانيتين . قبل أن أدعو له بالرحمة ، وأقفل الخط .

أذهب إلى الحمام ، لأغسل الحزن عن وجهي.  ولم أفعل شيئا سوى أنني نثرت من الملح بعض  ما رسّب الحزن .  أعود إلى الملفات ، بقي لي مريضين لم أرهم ، أحاول أن أقرأ في ملفاتهم ، وكل كلمة تذهب إلى عقلي ، ليفسرها ، أو يفكر فيما يبني عليها ، أو حتى يراها ، تزدحم مع الصور ، والمشاعر ، والتخيلات هناك . رأيت وجه جدي ، بسرير ، وبلا سرير ، ابتسم ، وصلى واقفا ، وصلى جالسا ، رأيته بكفن ، لم أره .  تزاحم كل شيء ليعصر الماء من  فوهة عيني ، التي أصبحت كفوهة برتقالة مقطوعة الرأس ، تعصرها يد عابثة .تعصرها بما يكفي ليظهر الماء ولا يسيل ، وتفلتها ، وتعود لتعصرها مرة أخرى .

أكملت مابقي لي ، بعينين تلمعان . مشيت ببطء . استمعت بإنصات لذلك المريض الذي لم يعجبه أكل المستشفى ، بعد أن أحضرت له ماءا لأنه لا يستطيع أن يتحدث بارتياح بفم ٍ ناشف . المريضة الأخرى ، صامتة ، حتى الموت .قالولي في الصباح أنها ستموت . مسحت على رأسها ، دون أن أعلم ، أو أحاول أن أحلل لماذا فعلت ذلك، وخرجت .  ذهبت لأكتب عن أحزان لا أعرفها في الملفات . وانتهيت حينما جاءت الطبيبة السريلانكية المناوبة التي أراها لأول يوم وسألتني لماذا لا زلت هنا ؟ لا أدري لماذا قررت أن أخبرها   أنني تأخرت في الخروج ، لأنني تلقيت خبرا محزنا ، بدأ صوتي يرتعش ، تشاغلت بجمع أوراقي ، وخرجت قبل أن أنهار  على أول كتفٍ لا أعرفه .

خرجت محدقا إلى بلاطات الطريق . يالهذه المدينة التي ليس بها كتف واحد ألجأ إليه .  ذهبت إلى سيارتي ، صنعت من مقودها كتفا ً . وابتدأت أفكاري تثرثر . وتتزاحم حد الخروج من النوافذ المشرعة ، والنوافذ المغلقة . وفوهات البرتقال .

بيتنا القديم وذاكرتي الضبابية لمجلس يتوسطه جدي كالجبل . فرحتي عندما أصبحت طويلا بما يكفي لأقبل رأسه . الأعياد التي لم يمر منها عيدٌ واحد دون أن أسلم عليه . ابتدأتها وأنا أتلعثم في عبارات العيد المناسبة ، وكان يسألني عن النقود التي معي  والخمسة التي تطل برأسها من جيب ثوبي . والمسدس الذي أخبئه في يدي الأخرى . قبل أن أصبح يسألني لماذا لم أتزوج بعد ، ويقول لي (العيد الاخر وانت عريس ) . دلة القهوة التي علمني  كيف أمسكها في مجلس الرجال ، وكم هو المقدار المناسب لصب الفنجال . . تجويدي الذي يتحدث عنه أمام ضيوفه فيشعرني بالزهو .  قرآنه الكبير على مجلسه الخشبي ، الذي  قربه لي  كثيرا لأقرأ منه  . كان يحرجني طلبه لهذا أمام الجميع . ولكنني كنت فخورا بتقديره لي ورغبته في سماع قراءتي . المرة الأجمل كانت حينما بتنا جميعا في مزرعته البعيدة . ونهضنا من النوم لصلاة الفجر ، كان الجو بديعا ، أحضر لي قرآنه ، وطلب مني  أن أقرأ . وقرأت طويلا ً ولم أتوقف حتى بح صوتي ، وأغلقت القرآن لأسمع عبارات الثناء راضيا مزهوا  .

أقعده المرض . قبل أن يؤثر الصمت . وذهبت لأراه في آخر زيارة إلى الرياض . شعرت بأنها ستكون المرة الأخيرة . حدقت في وجهه الصامت ، ودعوت الله له . حملت ملامحه في وجهي . ورحلت .

أجري مكالمات كثيرة ، أعزي فيك الآخرون وليس ثمة من يعزيني بك . ينقطع اتصالي بعمي ،يتحدث فلا أسمعه ، وأتحدث فلا يسمعني .  كأرذل ما يكون الحظ . أعزي أبي ، وعماته ، وأعمامي ، وعماتي . أقطع جزءا من قلبي في كل مكالمة ، ويذبل قبل أن يصل إلى هناك .  أتحدث مع آخرين لا يعلمون عن حزني شيئا ، أعصر كل برتقالات الدنيا في داخلي . يقولون أن الضربة التي لا تميتك تجعلك قويا ،وقالوا (ضربتين في الراس توجع) لكنني لم أسمع شيئا عن الضربات الثلاث .. ولا الأربع ..

برتقالاتي تنشف رويدا رويدا ، لا أدري إذا كانت تعصر نفسها بنفسها ، أم أنني أنا من يعصرها . . لا يهم كثيرا ، المهم أنها تنشف ، لا اذكر انني احتجت لأن أكتب مثلما أحتاج الآن . . أحتاج لأن أقول .. غفر الله له .. له الجنه .. تغمده الله بواسع رحمته .. بعدد التعازي التي فاتتني ..  بعدد ما تمنيت أن اكون حاضرا في توديعه .. بعدد الحزن الذي ملأ هاتفي .. بعدد ماعصرت .. بعدد الأكتاف التي لا أملك منها شيئا ..

ربما عصرت أكثر مما ينبغي لي ، لكنني أحتاج لمثل هذا ، كي أخرج جافا،  خفيفا ً ، كي أدعو له بصوت مسموع .. كي أستطيع طيّ الصفحة مرتاحا ً ، و أواصل الكتابة  على دفتر الحياة . . .

 

 

بحفظ الله ياجدي ..

دموع الناس في بلدي ..

ينقّلها .. أسى خدٌ .. إلى خدَّ ..

ويرتحل .. عزاء الناس ِ

من كفّ .. إلى كفّ ِ ..

وأنا المكلوم .. في البعدِ ..

أراقب دمعتي ..

وحدي . .

ولا خدّ .. سوى خدي . .

ولا كف ستحضنها ..

سوى كفي . .

ولا كتف . .

أميل عليه في حزنٍ ..

 سوى كتفي . .

 

 أتاوا 

مايو 2008

 

 

هناك 3 تعليقات:

  1. هذا أيضاً حزنٌ شبيه لحزن قديم. الأجداد وهواتف الموت وكندا. بارع كان صدقك.. وأنا أعتقد دائماً أن الصدق (مهارة)!ـ

    http://www.alalwan.com/poems/wahan.htm

    تحياتي

    محمد حسن علوان

    ردحذف
  2. محمد ،
    "الأجداد وهواتف الموت وكندا"
    بالضبط ، هكذا يختزل كل شيء في الجمل الصغيرة المعبرة ، لا أقل من أن تكون الجمل صادقة إذن ، إذا كانت ستختزل كل ما يجري . أنا أظن أن صدقها يتناسب مع مقدار ما تختزل ، وقد تكون مهارة، لا لأنها مهارة بذاتها تلون الأشياء السوداء بالأبيض ،وإنما لأنها تستعير من مهارة الوصف ثوبا يليق بها .

    أنا أؤمن بأن الألوان لا تسطع ، ولا تقاوم الانقشاع السريع إلا إذا كانت من جنس ما تحتها عندها تصبح كثافة لونية لا تشترك في شيء مع اللوح المموهة للأعين القريبة

    شكرا لحضورك (الساطع) ، وعينك القريبة

    ردحذف
  3. يا الله .. يا الله

    ردحذف