الثلاثاء، 31 مارس 2009

رحلة الذهاب والعودة ، أو العودة والذهاب



كنت أجر آخر سحاب في آخر شنطة إلى حيث يبقى  يوما ً كاملا ً ، تهزه الكثير من الأيدي في مكانه ، وتنقله بين الطائرات والمطارات ، حتى تصل يدي إليه مرة أخرى في الرياض ، في غرفتنا ، فأفتحه بهدوء ، وأرتدي بجامتي ، وأنام .
نزلت إلى مدخل العمارة ، وجدت صديقا في انتظاري ليقلني إلى المطار ، وضعت مفاتيحي معه ،ووصلنا إلى المطار ،  ونزلت إلى ساحة فسيحة ، يتوزع فيها البشر إلى ساحات أصغر تقودهم إلى بوابات توزعهم على العالم .
 حسناً ، ماهو الفرق بين رحلة الذهاب ، ورحلة العودة ؟ في أي الاتجاهات (أذهب) ، وفي أي الاتجاهات( أعود) ؟ ..
حينما كنت أغادر إلى الرياض ، لم يقبّـلني أحد ، مقارنة بكم القبل التي حصلت عليها و أنا أغادر الرياض ، أتوقع الآن كثيرا من القبل التي تنتظرني هناك . كنت في المطار أفكر في المكان الذي سأذهب إليه ، بدلا من المكان الذي جئت منه .  ركبت الطيارة ، أرتب الشوق في قلبي ، أحلم بجلسات ٍ دافئة ، و وجبات دافئة ،وشمس ٍ دافئة . أحلم بقهوة العصر ، وفطور الصباح ، والقهوة التركية بعده ، وجريدة الرياض .
يمر شريط الذكريات للأشهر التي قضيتها بعيدا . أشعر أنني أمتليء بأشياء كثيرة ، أشعر بأن عقلي منتفخ  ولا دبابيس سوى في الرياض.
ينتفخ حلقي انتفاخا غير مؤلم ، أرجع برأسي الى الوراء ، أسنده على ظهر المقعد ، أغمض عيني ّ ، أشعر وكأنني انتهيت للتو من سباق ٍ في الجري ، أتذكر أنني الآن فقط أستفيد من فترة راحة ، سأعود بعدها إلى السباق  .   هذه المدينة البيضاء التي غادرتها وقد كساها الثلج ، صنعت لنفسي حياةً في داخلها ، هناك أبواب ٌ أغلقتها خلفي ، ومصابيحٌ أطفأتها ، وثلاجة أفرغتها ، وسيارة تنتظرني في المرآب ، وفواتير تأتي إلى بريدي ، ومستشفى يضعون إسمي في جداول مناوباته  . إلا أن أحدا لن يفتقدني سوى بسبب فاتورة متأخرة الدفع ، أو إيجار لم يسدد ، أو مناوبة لم أحضر لها .  في الرياض ، يأتي إلى بريدنا رسائل غير مهمة لي ، تنتظرني هناك سيارة تتهالك بعد سنوات طويلة من خدمتي ، لا أملك لها وثيقة التأمين الإلزامي الجديد  ، وأملك رخصة منتهية ، وليس ثمة إيجار مستحق ، ولا فواتير متأخرة ، إلا أن الناس تنتظرني . ولو تأخرت أكثر من ساعتين لاستبد بهم القلق . كانوا يحضرون أنفسهم لمجيئي منذ أسبوعين . سمعت أنهم زرعوا الحديقة المهملة في بيتنا ، وصبغوا جدار الحديقة بطلاء جديد .  هناك ينتظرونني لكي يعطوني أكثر ، وهنا ينتظرونني لكي أعطيهم أكثر ، إلا ما حملت معي من هناك . كم كان مهما أن أجد من يقلني إلى المطار مودعا ، ومن يسأل عن عودتي إلى كندا وأنا بين أهلي هناك . لا أعلم ماكان يمكن أن يحصل لي هنا دون أصدقاء لا يبتغون مني جزاءا ولا شكورا  .
قضيت بقية الرحلة أحاول أن أتجنب التفكير ، لا أدري لماذا ، ربما شعرت بأن الرحلة طويلة بما يكفي لأفكر فيما بعد ، وأكتب فيما بعد .
أخرجت دفتري مرة واحدة ، وكتبت ( عائد ، لألعب دورا في كل الأحداث الصغيرة والكبيرة ، أكمل زاوية المربع على السفرة الأرضية عند الإفطار ، أوسخ كوب شاي إضافي ، أستهلك فنجانا آخر بعد العصر ، أقبل رأس أمي ، وأثرثر مع أخي ،أشاكس أخواتي ،  وألعب مع حنونة ، عائد إلى حيث أستطيع أن أستلقي دون أن أخشى من السقوط ، وأنام دون أن أخشى أن أصحى  متأخرا ، وأغمض عيني دون أن أخاف .. )
لا أذكر كيف مر باقي الوقت حتى وصلت ، وبعدها لا أعلم بالتحديد ماذا جرى!
أذكر أنني رأيت أخي في مطار الرياض  ، وعانقته ، و أذكر أنني رأيت أمي تنتظر عند باب الكراج حيث دخلنا  ، وعانقتني باكية بدموع لا صوت لها  ، وقبلتني أختي كما لم تفعل من قبل ،لمحت الكثير  الدموع الأقل ملوحة ، وعرضت في نافذة عيني مثلها ،أذكر أنني قابلتهم بحصافة لاعب ٍ كان يركض سنة كاملة ، ولما جاء يستلم الكأس مد يده متأنيا ً . وقلبه يركض .  أذكر أن بعض الخراف قتلت من أجلي ، وأكلت منها  متأنقا بثوبٍ وشماغ وعقال ، جالساً على صدر الصحن الذي يتوسطه الرأس ، أذكر أنني نهضت مبكرا ككل الضيوف المحترمين ، فلتوقيت نهوضي في تلك الولائم أهمية لم أختبرها من قبل ، لذلك خانني التوقيت في بعضها حينما ينهض قبلي شخص لا يعرف كيف يحترم البدو ضيوفهم . أذكر أنني صحوت من نومي لأجد نفسي على سريري، وتقع عيناي على لوحة الجدار المرسومة باليد  ، فتبدو كالحلم ، لثانية ، أو ربما ثانيتين ، نهضت بعدها ، وأذكر أنني حاولت تشغيل سيارتي لعشر دقائق ، وأذكر أنها استجابت بعد ذلك .   أذكر أنني قطعت بها طريقا طويلا إلى مستشفى  الجامعة قطعته لسنوات عديدة  .  أذكر أنني وقفت بآخر المواقف المزدحمة كما يفعل مراجعي المستشفى ، والطلاب ، أذكر أنني مشيت وأنا مبتسم ، وتمر بذهني الآن صورة ضبابية لأشخاص لا أذكر وجوههم ، كانت وجوههم مكفهرة ، يعاتبني لسان تقاطيع وجوههم  على ابتسامٍ لا يعرفون له سببا .   أذكر أن رجل الأمن سألني – تخيل -  إلى أين أنوي الذهاب ، وأذكر أنني ابتسمت ، وقلت له شيئا لا أتذكره . أذكر أنني توقفت كثيرا في ممرات المستشفى لأتحدث بما يشبه الصراخ السعيد مع أحدهم ، وأجيب على أسئلة ممتعة  من نوع (معقولة ؟) و (ماالذي أتى بك إلى هنا؟ ) وأسئلة أقل إمتاعا من نوع (كيف حالك؟) و(وش صار عليك) . أذكر أنني شعرت وكأن المستشفى كان منزلا لي يوما ، وعدت إليه ، ولكنني لا أحمل بطاقة انتمائي إليه ، أواجه نظرات رجال الأمن المرتابة عند أطراف الممرات ، أود لو أخبرتهم بأنني قضيت سبع سنين هنا ، وأنه من المؤلم أن أشعر الآن بأنني بت غريبا ، ولكنني كنت أمشي فقط . وأفكر .
أذكر أن زملائي السابقين من الأطباء قاموا بدعوتي إلى استراحة واجتمعوا هناك من أجلي ، أذكر أنني لم أعرف كيف أشكرهم ، وربما نسيت أن أشكرهم كما يجب . أذكر أنني قابلت أصدقاءا قريبين ، وأصدقاءا أقل قربا ، وصديقين كانا معي على مقاعد الدراسة الثانوية .
وأذكر أنني نويت أن أقابل أناسا آخرين ، نسيت أن أقابلهم ، وأحادث أناسا آخرين ، نسيت أن أحادثهم .  وأذكر أنني قابلت أناسا لا يتجاوز عددهم نصف عدد أصابع اليد الواحدة  لم أكن أخطط أن أقابلهم ، ولم أكن  أود أن أقابلهم .
أذكر أنني وضعت رأسي على كتف أمي ، وأذكر أنني لم أقض معها وقتا كثيرا ، التقويم الالكتروني الذي أستعمله في هاتفي ، يقول أنني قضيت هناك شهرا ، وأقول أنني قضيت هناك ساعة .   أذكر  أنني صليت الجمعة في مسجدنا الجديد ، أذكر أنني لاعبت حنونة ، كثيرا ، وأذكر أنني سألتها إذا كان الجاكيت الذي أحضرته لها أعجبها ، وجاوبتني بـنعم لا تبدو مقنعة ، وأذكر أنها قالتلي أنها تفضل الألعاب .
أذكر أنني قبلت رأس أمي صباح العيد ، وأذكر أنني جلست في مجلس جدي ساعة ، و أذكر أن  المجلس بدا مختلفا دون جدي .  
أذكر أنني كنت أرغب في أن أتزوج ، وأذكر أنني تحدثت مع أمي ، وأخواتي ، وأذكر أنني فكرت كثيرا ، كثيرا ، وملأت الكثير من قوائم الإيجابيات والسلبيات ، وأتذكر جيدا الآن أنني لم أتزوج !
أذكر أن كثيرا من المشاكل بدت مستعصية بلا حل ، وأذكر أنني أدركت أنني كنت مغرورا بتوقعي أن أفعل شيئا من أجل حلها .
أذكر أنني رأيت بكاءا غير بكاء الشوق لي ، وأذكر أن الرياح لم تكن طيبة بما يكفي لتلبي رغبات سفينتي ، على أنني أخبرتها بأنني لن أبقى في هذا البحر طويلا . أذكر أن الكثير أخبروني بأن الشيب قد زاد كثيرا في شعري ، وأذكر أني تلقيت أكثر من ملاحظة من أشخاص مختلفين تفيد بأنني أصبحت أكثر هدوءا ، ورزانة ، وعمقا .
أذكر أنني قضيت اليوم الأخير  واجما ، محاولاتي للابتسام بدت عابثة ،  أتصور أنني كنت كشخص يحمل فوق كتفه أحمالا كثيـــرة ، فائضة وفوضوية في آن ، ولا يريد أن(يتحرك) كثيرا كي لا تقع . أتذكر أن عماتي أتوا لتوديعي ، وبعض خالاتي كذلك ، أتذكر أنني اغتصبت مشاعري لأحمل بسمة على وجهي . أتذكر أن أبي نسي أن يأتي ، كما نسي في المرة اللأولى ، وأتذكر أنني اتصلت عليه في المطار حتى لايغضب  بعد أن تذكرت أنه لم يأتِ   .أتذكر أن الدموع كانت أقل من المرة اللأولى، كانت تتسكع في مكان أعمق من الأعين  .    لم( أتحرك) كثيرا في المطار ، ولا في مطار لندن ، الذي مللته وملني لساعاتٍ تسع . وكتبت فيه عن قلبي الذي يهتريء *.  مر الوقت بطيئا كسلحفاة بغيضة ، لا يمكنك أن تتحدث معها ولا أن تستحثها . تتوقف كما يحلو لها ، وتمشي بطيئة على أقل من مهلها ، وأنت فوقها تحاول أن تبدو هادئا .
ووصلت أخيرا ، غسل الثلج عن وجهي وجومه .كنت سعيدا بوصولي .  كنت أكثر قدرة على ابتسام لايفضح تكلفي .مشيت في سيارة صديقي بين تلال الثلج ، في طرق بيضاء ، حتى  وصلت إلى شقتي ، أدرت المفاتيح ، ودخلت ، كان جميلا انها انتظرتني ، لا يهمني أنها لم تملك خيارات أخرى ، المهم أنها كانت تنتظر ، كما تركتها ، سريري بدا وثيرا ، البيتزا التي طلبتها وصلت سريعا ، هاتفي الجوال لم يكن يعمل ، ولا التلفاز ، ولا الانترنت ، تحدثت مع الشركة بواسطة الهاتف الثابت ، دفعت فواتيري المتأخرة ، وبدأت الدنيا تبتسم .   صحوت صباح اليوم التالي ، نزلت أحمل كوب قهوتي بيدي ، رأسي يؤلمني كثيرا ، توجهت مباشرة إلى الثلج ، كان أكثر بياضا من أبيض شيء سبق أن رأيته ، لمسته متشككا ، التفت ّ ، تأكدت أن أحدا لا يراني ، ثم ملأت كفي منه. أخذت نفسا عميقا ، كان صباحا هادئا يليق جدا بيوم جديد .عدت إلى شقتي . عادت أمي إلى الشاشة الصغيرة ، خرج أصدقائي هنا  من الهواتف والإيميلات الى الحياة ،وعاد أصدقائي هناك إلى الهواتف والإيميلات .  تركت سريري المرتب في الرياض ، وعدت إلى سريري هنا وبطانيته المتكومة فوقه كيفما اتفق . وضعت بطارية في بيجر المستشفى ، وذهبت في اليوم التالي . وضعت حذاء الركض الذي أحضرته معي   لباقي السباق ، كنت أتمنى أن أحضر حذاءا أكثر جدة ، وأفخر نوعا ، ولكنني مقتنع بحذائي الآن ، أحمد الله كثيرا ،  لم يكن بإمكاني أن أحصل على أفضل منه  . ثم إن أحدا لا ينظر إلى أحذية الفائزين في السباق ، ربما يصبح للفوز طعمٌ آخر بحذائي هذا . ربما يجعلني أقوى ، ربما أسعد بنفسي كثيرا حينما أنظر إلى أصحاب الأحذية الفاخرة خلفي . شعور الخروج من المتجر حيث لم يمر سوى وقت قليل على إمكانية الحصول على صفقة أفضل ، يتبدد رويدا رويدا ، تختفي طزاجة التفاوض ، وتعود الحياة إلى وتيرتها السريعة .
وأركض .كما يركض من لا حذاء له . 
 
 
متعب 
أتاوا -ديسمبر 2007 

هناك تعليق واحد: