الثلاثاء، 31 مارس 2009

قطرة تتكور على نفسها




الأمس القاتم ، الملطخ بالوحدة ، وضعت آثارها في كيس أسود ، حملته سيارة الصباح شرقا ، وتوجهت غربا إلى المستشفى .
 
رجل الأمن العجوز ، يسألني عن يومي ، وقبل أن أجيبه يقول : أتعرف ، كل يوم هو يومٌ جميل ! جملة سطحية ، ربما تتزحلق على قشرة المخ وتسقط ، لكنه عرف – لسببٍ أجهله-  كيف يحشرها بين التعاريج ، فتعصر قليلا من السيروتونين والدوبامين  ، تحرك عضلات وجهي بابتسامة ، لا تختفي حتى تبدأ جملته المحشورة بالذوبان ، رويدا رويدا ، وتتحرر عضلات وجهي تدريجيا مع عودة ذلك الجزء من المخ كخد يلتصق بالزجاج يسحبه أحدهم بحركة بطيئة .
نعم ، كل يوم ، هو يومٌ جميل .
أذهب إلى دكان صغير في طريق عودتي ، أرى عجوزا آخر ، تصحبه ثمانون سنة عاشها ، تقف بجانبه ولا تحط على كتفيه ، يوقع أوراق اليانصيب ! أتمنى أن أعرف ماذا سيفعل بالملايين لو فاز بها ، أفكر ، كيف يستطيع أن يبتسم ويبدو مرحا ، إذا كان خلال ثمانين سنة كاملة، لم يحقق ما يريد ! التفسير الوحيد ، هو أن يكون قد حقق مايريد ، ولكنه يملك نفسا لا ينقطع ، ورقبة لا يستطيع بها الالتفات إلى الخلف ، وأقداما لا تعرف كيف تتوقف عن الجري ، حتى لو كان ذلك الجري ، لعبة احتمالات يراقبها من فوق كنبته في دار للعجزة .
أعود إلى الشقة ، أفكر في الآخرين !آه ..  الآخرون . الغرباء ، والأشقياء ، والتعساء ، والكاذبون ، والأوفياء ، الصادقون ، والأغبياء ، المحتالون ، والأذكياء ، المجانين ، والعقلاء ، الموسوسون ، والصامتون ، والحكماء .  الغريبون ، واللطفاء . الفرحون والتعساء ، الممتعون ، والمنفرون ، الرائعون ، والذين تشفق عليهم وتحزن من أجلهم ، والذين يجعلونك تشفق على نفسك . الحزانى بلا سبب ، والراضون رغم كل شيء .
خليط متشابك ، كمستنقع عظيم ، سميـــــــــك ، ولزج ، ومتموج .  تنظر إليه، كأنك قطرة تتكور على نفسها في حافته  ، تدرك جيدا أن به ماءا نقيا ، وذهبا مصهورا ، ونفطا قد يلوثك قليلا لكنه سينفعك في آخر المطاف ، ونفطا خاما سيسدد لك فاتورة تعبك مضاعفه لو نقيته واعتنيت به . وطينا لا ينفع في شيء . أرى نفسي قطرة ماء تتكور على نفسها على حافة الخليط العظيم  ، ويتصرف كموج تحركه رياح لا أراها ، من الممكن أن يبقى بعيدا دون أن نتلامس ،  يقترب ، ويغير رأيه قبل أن يصل فيعود أدراجه ، ومن الممكن أن يلمسني ، ومن الممكن أن يغمرني تماما ! يغمرني ، وأحاول الهرب ، كسلحفاة فاجأها موج بارد ، أرهق كل أطرافي في محاولاتٍ لدفع الكرة التي أتمدد داخلها ، وأبذل من الجهد ما يجعلني أعتقد أنني وصلت إلى مستنقعٍ آخر –إن كان هناك مستنقع آخر – لأكتشف أنني لم أتحرك سوى قيد أنمله ، أتمدد داخلها من جديد ، وأدفع سطحها الداخلي المليء  بطبعات كفوفي وأقدامي المشدودة ، فقط لأبقى في مكاني .
  لا أعلم مالذي يحركه نحوي في الزاوية التي أتموضع بها ، ربما كانت قطعة ذهب منسية ، قوية بما يكفي لتحرك الأشياء في اتجاهي ، تبحث عن ماء يزيل عنها السواد فتلمع من جديد ،أو طين يريد أن يتخفف من ترابه . أو قطرة ماء ، كانت تقف مثلي على الحافة يوما ، وتريد أن تعود لتتحد بقطرة تظنها نقية . وربما أقدار ريح ، تتصادف مع أقدار موضعي ، والجزء الذي يليني من ذلك الخليط .   أفكر في أن أبدأ رحلة ملحمية أفقية على الأطراف ، لأبحث عن قطرات أخرى ،لكنني  لا أستطيع أن أرى جيدا من خلال الماء ، في محيط نظري (المائي ) لا أرى أي قطرة تقف ، والتحرك البطـيء الأفقي سيستهلكني ، كمغامرة لا أعلم شيئا عن نتائجها .
حتى إنني لا أعلم شيئا عن فيزياء الزمان والمكان والمادة هنا ! زمانياً ربما كان هذا هو  الوقت الذي استهلكته كل عناصر الخليط الذي أرى في تقرير أين تقع ، وربما كان الوقت الذي سأقضيه لأدور دورة بسيطة على الأطراف أقل من الوقت الذي أقضيه متكورا .  ومن الناحية المكانية ، ربما المكان أصغر بكثير مما أعتقد ، وربما كانت هناك تجمعات مائية أخرى ، لكنني لا أعرف كيف ألتفت داخل قطرة بأطراف مشدودة ، وموضعي على الزاوية وتحديقي بها ،  يشبه نملة تحدق في فتحة ترابية في غابةٍ نيجيرية ، بالنسبة إلى الكوكب . أما من ناحية فيزياء المادة ،  ربما كنت أصلا داخل الخليط –وهذا احتمال وارد جدا – لكنني أملك خصائص فيزيائية تفصلني عن البقية ، كما يملك البقية خصائص تفصلهم عني ، والسواد الذي يتسرطن على سطح كرتي بألوان قزحية وأهرب منه ما هو إلا طريقة للتمازج والتحول البطيء والنمو .
أمي ،ببساطة ،  تقول أنها تعرف كيف تقتنص المناطق الأنقى من الخليط ، تقول أنها ستغرف لي منه ، وتسكبه عليّ . تردد دائما أن الحياة بلا قطرات نقية .
لا ريب أن ثمة قانونٍ كوني ، يجعل قطرة حبر أسود تصبغ كأسا من الماء النقي . وكيسا من القمامة تطغى رائحته على حقل من الأزهار ولو كان في آخر أطرافه .  ربما كل ما يلزمني أن أغلق أنفي قليلا ، وألتقط الأزهار وأرحل بها إلى مكان ٍ آخر ، ولكنني أفكر أكثر من اللازم !
ربما يلزمني أن أغسل السواد مباشرة ، وأتحرك في اتجاه آخر بدلا من أن أسترضيه وأطلب منه أن يبعد لزوجته والتصاقه عني إذا سمح ، وأخبره كم هو العالم مليء بسوادٍ آخر سيفرح به . أن أتوقف عن الشفقة عليه دون أن أعرفه ، والتفكير في وجهة نظره من الأشياء .وإمكانية وجاهة فكرة التخفف بالماء .
ربما فقط يلزمني ، أن آخذ نفسا عميقا ، وأتوقف عن الخوف من السواد الذي يعلق ، وغرابة الريح ، ووقاحة الطين ، وأذهب للخوض في الخليط كفلاحٍ يلبس حذاءا جلديا بعنق طويلة
،يهرس الأشياء في طريقه ،  يلتقط ثماره ، ويرحل ، وينسى كل شيء بعد أن يغتسل ، ويقضم الثمار  الطازجة على ظهر كنبة بيضاء !
 
 
Ottawa , Feb 2009

هناك تعليق واحد: