الثلاثاء، 31 مارس 2009

الرحيل






((إني أغادر .. أناسا لا يعرفون كم أنا وحيد من دونهم . أغادر مدينة لا تعبأ ، و شوارع تسكنني ولا أسكنها ، وغرفة يعتصر قلبي ألما لفراقها ولا تتحرك جدرانها ، تدق في قلبي طبول الأمل ، وتلمع في عيني رهبة الخوف .. ويصب  ناي الوداع ألحانه الحزينة في أذنيّ .. وأتحرك كسفينة يضطرب كل ما في داخلها وتمشي هادئة في البحر . .))
 
توقف نهر أفكاره عن الجريان فجأة حينما وقعت خشبة سؤال أخيه :
-          يالله تنزل ؟
 
انتزع نفسه من المقعد ، ليأخذ مكانه في منضومة المسافرين عند بوابة المطار للرحلات الدولية ، أخرج حقائبه من شنطة السيارة ،  وضعها على الأرض ،  أخذ حقيبته الأخرى ، تقلّدها كما يتقلد المحارب حقيبة سهامه ، عله  يقتل  وحش الغربة ، بسهام تحمل رائحة الوطن . قبل أخاه ، قبل فيه حينما قبله كل أهله ، وكل ذكرياته ، وكل الأماكن ، وكل الماضي .
خرجت كلمات الوداع متحشرجة ،  متقطعة بسيف ثخين لا يدري من وضعه فجأة في حلقه .  
 
   استل الحديدة من غمد الشنظة الأولى، قادها خلفه ، وذهب إلى المعركة ،  بأعين تتلألأ ، وقلب يخفق ، وحلق منتفخ .

في الطائرة
 

مذهل ٌ كيف هي مشاعر الناس في المطار ، وفي الطائرات ، تجلس ويعصرك الحزن لفراق من تحب ، ويجلس ويحرقه شوق يظهر رماده  في وجهه الأبيض على هيئة ابتسامة متلهفة ، للقاء من يحب ، تفصل بينكما مسافة أقل من أن تذكر ، ويعيش كلاكما في عالم منفصل ، منفصل تماما ، لا يجمع بينكما سوى ، كيس من الفستق ، وفوطة صغيرة ، تحمل رائحة السفر ، يستشنقها كلاكما .

 
 
بعد إغفاءة قصيرة
 
 
صحوت من الحلم ،
 
يحتاج الإنسان بعد أن يحلم في نومه  أن يصحى ، لكي يتذكر حلمه ، وتفاصيله ، ويعيشه .  تذكرت ذلك في اللحظة التي فتحت فيها عيني ّ بعد إغفاءة قصيرة في الطائرة ، لقد حصل معي العكس ! ، كنت أعيش في صحوي شيئا يشبه الحلم ، واحتجت أن أنام لأنتبه ، وأتذكر ، وأخرج ولو للحظة من حلم الصحو الذي عشته .
بعد أن نمت ، تذكرت تفاصيل حلم الصحو الذي عشته ، وجه أم ملائكي يبكي ، صوتي الذي خانني ، ولم يخرج بعد أن سدت الطريق في وجهه ، صخرة ، لا أعلم مالذي أتى بها إلى حلقي .أصوات ترتعش ، لحنجرات تشغلها أشياء أخرى كثيرة غير الكلام . صخرات أخرى كثيرة تنتفخ في حلقي ، ويبدو أنها لا تنتهي .  أخي الذي ودعني في المطار بعد أن مثل كلانا دور القوة والثبات  ، تمثيلا رديئا ً .
صحوت ، صحوت على صوت طفلين يبكيان ، يصرخان ، يشقان سكون الطائرة ، يمزقان الصمت بانتقام .
صحوت ، وقد طويت صفحة الأمس ، التفتّ إلى النافذة وجدت الفجر يشع في الأفق ، من بعيد ، فوق سماء سويسرا .
حشرت نفسي في حمام الطائرة غسلت وجهي ، زال مع الماء بعض الحزن ، أعلم أنه لا يجدر بي أن أحزن ، أعلم أن ترف حزن كهذا الحزن الذي نختاره لا يملكه جميع الناس .  لكن هل تعلم أمي ذلك ؟ ربما ليس النوع ذاته من الحزن ، ربما كان اختياري ، ومصيرها .
حزن الفقد مؤلم ، لا أدري لماذا شعرت ، وكأنني سأرحل إلى الأبد ، ربما أنا الآن ألبس نظارة سوداء ، سأخلعها قريبا ، لكنني لن أنسى تلك الوجوه التي بكت .  لن أنسى ، كيف كان ذلك الحزن ، يأتي ، دون أن يستأذن ، يهبط ولا أملك له دفعا .
الفجر ، حينما أتى من نافذة الطائرة ، كان قاتما ، ثم ابتدأ يشع أكثر فأكثر ، أنا الآن في هالة من نور ، في مطار جميل ، في صباح جميل ، أستقبل مستقبلا جميلا ، كل ما أرجوه أن تستحق تلك الوردة التي مددت كفي إليها ولم أستنشقها بعد كل هذه الأشواك التي أحسست بها بعد أن اقتطفتها ، وقبل أن أستنشقها .أشعر وكأنني أسكن في مثل هذه اللحظات الآن ، في اللحظة التي يؤلمك  بها شوك  الوردة التي  تنوي استنشاقها ، في اللحظة التي تدفع عندها الثمن للبائع ، ولم يمدّ لك بعد حاجتك .في اللحظة التي يتقلص بها وجهك ،ويؤلمك أنفك ، وتريد أن تعطس ، ولم تعطس بعد .  في اللحظة  التي تدفع بها مبلغا كبيرا لتشتري شيئا ببطاقتك الإئتمانية ، وتراقب مؤشر المتصفح ، في الأسفل ، لترى إن كنت ستحصل على ما دفعت من أجله .
في اللحظة التي تفقد فيها وطنا ، وتنوي فيها أن تملك وطنا ، وتحمل معك ، كل شيء ، كل شيء ، في الطائرة، معلقا ، في الجو .
 
 
 
ملحوظة غير ملحوظة :
بعد أن وصلت ، ما انفكيت أجمع من ابتسامات الأصدقاء ، ورداً تتلاشى معه رائحة الغربة ، وبدا الكلام أعلاه ، أقتم مما أحب أن أتخيل وأستشرف ، ولكن ، هي سبورة ، وكان ذلك جزءا منها ، أحاول أن أجنبه التحيز والانتقائية المخلة .
 
أتاوا ، 8-4-2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق