الثلاثاء، 31 مارس 2009

رمضان الكندي مرة أخرى ، وكرة الصوف



عاد رمضان الكندي . كانت أول مرة أقابله فيها منذ عام ، كنا نحترم بعضنا كثيرا ، أجلـلته ، وغمرتني سكينة لا أظن أنني كنت أتصنعها . واحترمني بدوره ، كان يربت على كتفي حينما أفطر وحيدا ، ويرسل لي صوت أمي يسألني عما صنعت من فطور ، وكيف هو الصيام هنا .
إلا أنه في هذا العام ، على أنني ما رأيته منذ سنة ، جاء كصديق قديم ، يصفعني على قفاي ويضحك . يرونه أهلي في الرياض من بعــــيد ، أنا وهو ، نقطتين متعانقتين ،ومعرفة سابقة ، ولا يسألني أحد عن التفاصيل .
كم استثقلت حضوره في بداية عودته . وقته أطول . عمله أكثر . وروحانيته أقل . صداعه يمتد من الثامنة صباحا وحتى السادسة مساءا . قبل أن أنام وأصحى على صوت المنبه الذي يؤذن بطريقته الخاصة .
في اليوم الأول ، عزمت نفسي على سفرة أرضية ، صنعت قهوة عربية ، ووضعت حبات من التمر قبل أن أكتشف أن صلاحيته انتهت ، وإبريق شاي ، خبز ٌ دافيء ، وزيت زيتون ، ولبنة . وعادت الروحانية بجيوشها ، بحثت عن مصحفي الصغير . كرهت تفكيري الطفولي ، جالست رمضان الكندي على السفرة ، وأعتذرت عن سخافتي ، واستثقالي لحضوره ، توقف عن الضحك ، لم يتوقف عن صفعي في الأيام التالية ، لكنني كنت أحتسب الصفعات ، وأبتسم .
كل يوم ، له خريطة خاصة به ، قبل أن يؤذن المغرب ، وأصل إلى الكنز . ثم أتضاءل أمام نفسي حينما أفتح الصندوق . أعزم أن أكون أكثر صبرا ، ويزيد صبري في كل يوم ، إلا أن الخريطة تتغير في كل يوم بدورها .
قررت أن أطلب من رمضان أن يعلمني الصبر ، وتقدير نعم الله علي ، في اليوم التالي ذهبت إلى المستشفى في الثامنة صباحا ، قبل أن أغادر بعد أن انتهى الدوام إلى البيت منتظرا (بياجر) المستشفى الآخر ، أولها جاء في السادسة ، ذهبت إلى هناك ، وأفطرت على قهوة ، على مرمى من عين المريض الذي جئت لأراه . لم أغادر إلا في الواحدة والنصف صباحا ، لم أجد أحدا يستقبل جياع الليل سوى ماكدونالدز ، أخذت مكاني واقفا بين الكثير من المراهقين الصاخبين ، والصاخبات بعد أن شربوا كل مافي علب الليل قبل أن تغلق ، وتلفظهم إلى الشارع . شعرت وكأني حصان على شجرة قرود . ابتسمت للفكرة ، وظنت قردة سوداء أنني أبتسم لها ، تأكدت من فكرتي ، لو لم أكن حصانا لما لاحظتني بين هذا الكم من القردة .
أكلت صامتا كطفل يقضم رغيفه في الزاوية . أتحسس (بيجري) ، وأحملق في اللوحة على الجدار ، وكأنني أنفذ إلى ما خلفها . أفكر في العودة إلى البيت ، أخبرتني الممرضة قبل أن أغادر أن ثمة مريضة يمكن أن يحولهاطبيب الإسعاف إلينا ، لكنها لا تعلم متى ستكون جاهزة . قررت أن أذهب إلى البيت ، ربما أتسحر بطريقة أفضل ، ربما لا يحتاج الطبيب لتحويلها .
في الدقيقة الثالثة من دخولي إلى الشقة ، زعق البيجر كديك ٍ لم يدربه أحد على الزعيق فقط في أوقات الزعيق ، المريضة تنتظر ، خرجت إلى هناك . قرأت في ملف المريضة ، قابلتها مع صديقها ، قابلتها بعد ذلك لوحدها ، وخرجت لأكلم صديقها ، بكى من أجلها ، ربت على كتفه مطمئنا ، أدخلتها إلى المستشفى ، وخرجت منه ، فاتني السحور . لكنني شعرت وكأنني وجدت كنزا دون خريطة . خرجت مبتسما ، ابتسامة من وافق رمضان الكندي على أن يعلمه الصبر . توقفت عن النظر إلى الخرائط كل صباح . وأصبحت أفطر دون أن أخرج صناديقا من الحفر .
ذهب الجوع ، والعطش ، وتضاءل صداع القهوة ، والهواء الكثيف . وبقى شوق يتكور في حلقي مع كل فكرة أمضغها ، وأحاول بلعها فتتجمع ككرة من الصوف ، يعلق بها وجه أمي ، رائحة قهوتها ، ركبة أخي الذي يجلس بجانبي ، ابنه الذي لم أره بعد ، ابتسامات أخواتي ، كنبة الزاوية في الصالة ، صوت صلاة الحرم .ثوبي الأبيض .
أشعر وكأن كرة الصوف هذه ، مضمارا طويــلا أركض عليه كجسم ضئيل ، لا يراني أحد بعينه المجردة ، أركض ، وأركض ، وأقابل غابات من الشعر الذي لا يراه أحد كما أراه ، وأقابل الأشياء العالقة ،أتقيها بكفي ، أشم روائحها ، فلا يمكنني أكثر من ألتفت ، أحس بنغزات سريعة في قلبي ، ونغزات أبطأ ، على حسب سرعة الركض ، وكثافة الشعر ، أشعر بأنه بمجرد وصولي للرياض ، سأتوقف ، وأستلقي على الخيط ، الذي سيتكور سريعا فوقي وتحتي ويصبح كل شيء ككرة صوفٍ صغيرة ، أجلس داخلها ، وأتناول كل شيء بيديّ بعد أن تكوّر ، بلاحاجةٍ للركض ،وأملؤ الكرة/الخيط بروائح أخرى ، وأفكار ٍ أخرى ومشاعر أخرى ، قبل أن أمتطي ظهر طيارة العودة إلى هنا ، وأثبت طرف الخيط في الرياض ، وأمسك كرة الصوف التي تتفرع منه ، وأسحبه معي إلى كندا ، وتتمدد فوقه الروائح ، والأفكار ، والمشاعر ، الجديدة والقديمة .
ربما يلزمني أن أبحث عن جسم ضئيل آخر ، بخيط يشبه خيطي ، ونلصق الخيطين بجانب بعضهما ، باتجاهٍ واحد ، نمشي سوية في الطرق السالكة ، وننتقل من خيط إلى خيط كلما واجهنا غابة من الشعر في أحد الخيطين . فنصل سريعا ، دون نغزات ، لكن مشكلة الأجسام الضئيلة الأخرى ، أنها لا تخبر بكمية الشعر الموجود على خيوطها ، ويستحيل أن تراه بعينك المجردة قبل أن تقترب . فلا حيلة لي في رؤيته إلا بعد أن لصق الخيطين . وعندها قد تكون غابات الشعر ، هناك ، أكثر كثافة من غابات الشعر على خيطي ، بل ربما تكون كثيفة لدرجة اعتراض خيطي في مواقعه السالكة . وخيطي ، ربما يتفسخ منتجا مزيدا من الشعر حينما يمشي فوقه جسمين ضئيلين طوال الوقت .
أتخيل أيضاً ، أن ثمة أجسام ضئيلة تائهة في ملكوت الله لا خيوط لها تبحث فقط عن خيوط تتشبث بها ، وأخرى بخيوط بلاستيكية باردة لا تتكور ككرات الصوف الدافئة ، و"شعرها" له نهايات جارحة عندما يتفسخ ، ليس كالزغب في الخيوط الصوفية . وأملك ما يكفي من الإنصاف لأتخيل أيضا ، أن أجساما ضئيلة أخرى ، تتزحلق على خيوطٍ حريرية لا تتفسخ ، ربما سأسعد بالتزحلق فوقها ، لكن لا أدري كيف سيشعر الجسم الضئيل الآخر حينما أحتاج لدفء غابة كثيفة في خيطي الصوفي أريد أن نزورها سوية ، أو حينما أتكور داخل كرة الصوف ، أو حينما أحتاج للمرور من خلال نقطة عبور في غابة كثيفة لا بد لي من اختراقها .
الأجسام الضئيلة الأخرى ابتسمت لي كثيرا . تحاول أن تتشبث بخيطي في مواقعه السالكة . لكنني أخاف من أن لصق أي خيطٍ آخر ، قبل أن أكوّر خيطي ، ونسحبهما سويا . قدري أن أحمل كرتي الصوفية ، وأبحث عن كرة أخرى أتشبث أنا بها . وأحاول أن أحكم على تفاصيل الخيط من خلال شكل الكرة . وأسحب الخيطين من الرياض إلى كندا ، دون أن يتمزق شيء .
حتى ذلك الحين ، سألاعب خيطي ، وأتزحلق فوقه كبهلوانٍ ضئيل . أركض فوقه . أكوره وأفرده ، وأتسلق غاباته ، أتجاوز أكثرها تشابكا وأخرج لاهثا ،متعرقا ، متقطع الأنفاس ، وألتفت في كل الاتجاهات، دون أن يصفق لي أحد ! ودون حتى أن يراني أحد !
متعب
أتاوا - سبتمبر -2008

هناك تعليق واحد: