الثلاثاء، 31 مارس 2009

الكتابة


الكتابة ، السيدة الوحيدة في العالم التي أستطيع أن أهجرها وأعود إليها ، فأجدها كما كانت . أدرك أنها تعطي مفاتيح مدينتها الدافئة لأناس كثر ، لكنها لا تخجل من أن تفعل ذلك في ضوء النهار . لا تكذب بشأن ذلك .لا تتخبأ تحت الأغطية المريبة ، لا تتستر بالظلام ، لا تكتم ضحكاتٍ ماجنة   خلف أبواب بريئة ، ولا تفوح منها رائحة الخطيئة .

غرقت في البحر ذاته الذي لم أتعلم بعد كيف أعوم فوقه ، لكنني لم أشأ أن أقول شيئا بأنفٍ متحشرج . أستلقي الآن فوق خشبة لم يجلبها الموج صدفة ، ولا كرما . أظن أن أفضل ما يمكن أن أفعله الآن من فوق هذه الخشبة ، أن أرحل ببصري بعيدا ، شربت من ماء البحر المالح ما يكفي ليخالط أنفاسي ، ويصطدم بأنوفكم   ، لا حاجة لي بأن أتقيّأه أمام أحد  .  أتصور أنني لو تحدثت عن قطعة ثلج نسيها الهواء الدافي الذي مر بعدها في زاوية الرصيف   لذابت في مكانها دون أن أدري . 
طائرة الذهاب ، وأحلامي المرتبة داخل علبة شوكولاته لم يتناولها أحد ، والساعة التي قضيتها هناك ، دموع أمي ، ضحكاتها ، والطفل الذي يحمل تاريخ ميلاد يصلح لسيارة فارهة ، صديقي الكهل الذي يتعذب ويعذب ،   أصدقائي الصغار الذين يكبرون في الاتجاه الخاطيء ، عشي الذي أردت أن أعيد ترتيبه ، وابتدأت أشعر بأن أعواد القش أثقل وأندر مما كانت عليه ، مدخراتي التي تتبخر أمام عيني ، الأحداث التي ترسل الناس إلى المستشفيات والسجون والشوارع وأرسلها إلى زاوية ممتلئة بالأشياء المكدسة في زاوية قلبي اليمنى. أضغطها جيدا ، وأحشرها حتى تختلط باللحم وتبعد عن الدم . أحشر بين كل عاطفتين مؤلمتين عاطفة جميلة ، ولا شيء أصعب من محاولة إخراج العاطفة الجميلة بعدما تتعفن بيد عمرو لا بيدي . بعد أن أدركت أن يد عمرو باغية ومتقلبة وتفعل مايحلو لها ، ابتدأت بتجنب وضع عواطف جميلة ، حتى لا آتي بعد زمن لإخراجها، وأنكث كل الأشياء المضغوطة فتتمدد ، وأرهق إبهام عقلي في محاولاتٍ لحشرها مرة أخرى في الزاوية .
أي سخف يجب أن يستوطن عقلي ، قبل أن أحاول أن  أعصر كل هذا في كأس واحد من الحروف .
أفكر أن أكتب شيئا كرسائل جوته التي ضمنها روايته (آلام الشاب فيرتر)  . أو كسقف كفاية علوان . كم أحتاج من الزمن والجهد والألم ، لأقطر نفسي في قارورة كتاب . لأتحدث عن كل الأشياء الصغيرة ، التي أراها جيدا ، التي تضيع في زحمة الناس ، والمدن ، والسيارات .   كم أحتاج لأدوزن كل النغمات الخافتة ، التي يغطيها الصخب ، كم مقصا أحتاج لأطفيء  كل المصابيح الكهربائية ، وأصف   رصيفا باهتا ً يجالس الليل  . كم قلبا أحتاج لأتحدث عن ذلك الذي لم يعد صالحا للكتابة  ، أي حبال ، ومواد لاصقة ، وخفة (عقل) تجعلني أبدو ساحرا    ، سأحتاج أن أستخدم ، لأربط صوت محمد عبده ، بالبرد ، بشوقي لأمي ، بالطائرات التي تذهب بي وتعود ، بالأرصفة ، والشوارع ، والأوجه الغريبة ، والأوجه المألوفة ، بالمرضى ، وسيرهم الذاتية ، التي أحاول أن أغير فيها دون موافقة صريحة من طرفهم ، والمشردين ، وابتسامات باعة القهوة ، وهدوء أمينة المكتبة ، بالليالي الطويلة على سريري ، والليالي الراكضة في المستشفى ، والليالي  الناضحة بالصداع والبرد ، والليالي الضاحكة ،   بالصباحات الهادئة ، والطرق المنسابة ، بالنهر الهادي ء ، وذاك القارب الصغير ، بشعور الفرح ، وشعور الوحدة ، وشعور النشوة ، وشعور اللاشيء. كيف أربط أشعار ناجي ، وغزليات ابن زيدون ، وبلد رسول حمزاتوف ، و(مسوخ ) كافكا ، بتعليقات قراء الجرائد السعودية ، والمقالات التي تنخر في مزاجي ، وسخافة (بنات الرياض) التي أشعرتني بشعور رجل أمريكي حدثته عن مشاهدة برنامج (جيري سبرنقر)عن طريق (أوربت) السعودية وكيف أنه يتعرض لدواخل المجتمع الأمريكي ، ورأيته يلوي فمه  ، ولم أفهم حينها شعوره . ظننت أنه يخجل من تعريته بهذا الشكل ، وتعلمت فيما بعد كم هي الانتقائية فعل خائن جدا ، يلوي عنق كل شيء.   كيف لي أن أربط هذا بمكالمة   تعكر مزاجي في الرابعة صباحا . وكيف ألمح بذكاء إلى علاقة سهري في المستشفى، وقضاء ساعات أربع مع مريض وعائلته ، أهون عليهم ، وأستمع لهم ، وأحاول أن أساعدهم ، بتلك الخائنة التي تعهرت فجأة . !
كيف لي أن أربط أغنية غوار ، التي أدندن بها في مساء سعيد ، (شو حبيتي بنص نصيص هالبورزان ) ، بتلك التي أحبت نص نصيص ، كيف أصف الثانية التي أغمض فيها عيني وأنا أكتب التاريخ على روشتة الدواء وأتذكر ، هذا التاريخ الذي كان سعيدا لسنين ، وأصبح عاديا جدا ، أتذكره فقط بعد أن أنتهي من كتابة ، ويثير في ّ كآبة خفيفة ويرحل  !أبتسم لنفسي ، ولا يسألني أحد لماذا أبتسم !
 كيف أجد علاقة بين زحمة شوارع الرياض ، ووجوهها الغاضبة ، بتقاطيع وجه غاضب في غرفة الإسعاف أمر من خلاله إلى الرياض مرة أخرى . كيف أجمع بين السعوديين الذين لا يفكرون باحترام الآخرين ، وعجوز يبقي لي الباب مفتوحا بعكازه في جملة واحدة . كيف أجلس على مقعد أرى من خلاله عالمان ، وانتقل بينهما برشاقةجنّي .
، كيف لي أن أجمع الأحداث كلها ، ابتداءا بسحب طرف كم كنزتي لأقوم بتدفئة أصابعي ، مرورا بحادث سيارة سائقنا الذي ذهب بالسيارة للتشليح ، وارتعاش صوت أمي ، انتهاءا بعناق ٍ باكِ ، وأخرج العوامل المشتركة ، فيما بينها وابدأ بالحديث عن الأشياء التي تملك أربعة أشياء مشتركة فيما بينها فما أكثر ، وأخلطها في أنبوبة حبر ، تكتب فصلا ً ، وتتوقف .    ثم أقوم بعمليات حسابية معقدة ، تعطي الأشياء أرقاما بناءا على أهميتها ، ومن ثم تعطيها رقما آخر بناءا على علاقتها بالأشياء الأخرى وعدد العوامل المشتركة ، ورقما هو ناتج مربع حجم الدم الذي تضخه في عروقي مقسوما على حجم الدم الكلّي .واجمع الأرقام لكل (شيء) ، وابدأ بالأشياء الأكبر فالأصغر .
يؤرقني الكلام الذي لم أقله ، أنماط التفكير التي أتفرج عليها وأود أن أعلّق ، وليس ثمة آذان ، الأغلاط المنطقية الفاضحة في الجرائد ، الفئران التي تدور في علب زجاجية ، ولا أدري بأي لغة أحدثها لأخبرها عن أبوابٍ لا تراها ، أفكر فيما اذا كان هناك فأر مغتر بنفسه بينها يفكر في شرح الشيء نفسه للقش الأصفر تحته . هل أنا أهم أم أتفه مما أظن ؟   لا أحد يخبرني    .   لا أحد .
كيف أنسج كل هذا في سجادة واحدة أجلس عليها ، أو في معطفٍ أتلحفه ، أو رقعة فنية أعلقها ، أو جورب ألبسه في قدمي ، أو هل يجدر بي أن أكومها ككرة من الخيوط وألقي بها في الزاوية ، أو هل من الأفضل أن ألقي بها في سلة المهملات ، أو ربما من الأهون أن أترك الخيوط تتناثر في كل مكان ، الملقاة وحدها كخيوط مبعثرة ، والناتئة   ، لا سيما تلك الناتئة المتصلة بأشياء أخرى ، ليس من الحكمة جذبها ، ومحاولة وضعها في نسيج آخر . ربما . يجوز .محتمل .  لن أعرف إلا عندما أتلحف المعطف ، وأستلقي على السجادة ،أو يدغدغني الجورب ،  أو أتأمل الرقعة .وحينها ستكون أي محاولة لإلقاءها في سلة المهملات متأخرة جدا وعبثية جدا .
 ومضيعة   للوقت . والدم . والأرقام . والتفكير . والحبر . واستثمارا سيئا لآذان لن تبقى طويلا . وخيوط كان بإمكانها أن تنسج نسيـجا خالدا .

أتاوا - ديسمبر -2008 

هناك تعليق واحد:

  1. كم هي رائعة هذه الخاطرة أخي متعب , رغم أني التقيت بصفحتك وسبورتك منذ عام تقريبا الا اني اضفتها للمفضلة لكي أعود هنا كلما سنحت لي الفرصة .أكثر مايعجبني في حروفك تلك الأشياء الصفيرة التي تضيع وسط صخب الحياة والمدن والشوارع , ولكنك تلتقطها بمهارة ليسيل حبرها هنا ويتغلغل في صميم القلب !

    في بعض الاوقات اخي متعب أشعر بأن حروفك تكاد تنفجر فأكاد أراها وهي تتراكم في قلبك وتتجمع كحمم ومشاعر ومواقف في حياة مجنونة ثم تنفجر دفعة واحد لتقدم لنا هذا الوصف الادبي الراقي والبسيط في نفس الوقت كبساطة الحياة التي لا لا يعتبرها الكثيرون كذالك !! , , في جعبتي الكثير للتعليق على ما رأيت في سبورة الغربة الا اني اخاف ان لا اوفي كلماتك حقها أخي متعب , ثق اني من أشد متابعينك في كل حروفك التي خرجت من تحت ظل الشجرة كما قلت في اوتاوا

    أستمر , أسأل الله ان يوفقك ويديمك لأهلك ويجعلك ذخرا وسندا وخير مثال لوطنك

    أخوك . . عبدالله من الامارات

    ردحذف