الثلاثاء، 31 مارس 2009

سلسلة الأحداث الصغيرة التي تعقب انسكاب الببسي على السجادة ..


 

كنت في طريق العودة إلى شقتي ، كان بائع عقلي المتجول يعرض بضاعته ، وأستمع إليه وأنا أقود دون أن يلاحظ أنني أعبأ بما يقول . يقدم بضاعته في أوانٍ ذهبية ، وفضية ، ونحاسية ، وبلاستيكية ، وحديدية ، وخشبية ، وقماشية ، شفافة أحيانا ، ومعتمة أحيانا أخرى ، وقد تكون مموهة تبدي خيالا لأصل مختلف . يضع بداخلها  كل مايخطر على بال زبائنه ، زبائنه  من أقلام ، وأصابع ، وألسن ، وحتى من الباعة المتجولين الأخر ، اللذين سيأخذون بضاعته ، ليجدوا لها قلما ، أو أصابعا ، أو لسانا ، أو بائعا آخر يتكفل بها حتى حين .  البضاعة أيضا كانت جلية الاختلاف والتباين ، نثريات تراثية تحمل عبق ماضٍ جميل ، وبضائع  يعلوها غبار ماضٍ لن يعود ، كتبٌ تصلح للقراءة ، وأخرى لا تصلح للقراءة ، قماشٌ داكن اللون له قدرة معتبرة على الستر أستطيع أن ألبسه ، وقماشٌ ناعم يفضح كل ماخلفه ، إلا أنه لا يشبه القماش المهتريء ، كثير الفتحات، الذي يعرضه أيضا  ، إلا في القدرة على الفضح  .  كان يعرض أيضا ، عودا له نغمات ، لا يستوعب جمالها إلا من يتعمقون في تحليلها ، وعودا يستطيع أن يجعل أغلب المارة في الشارع يصفقون ، وعودا لا يعزفه الا أنا ، ولا يفهمه إلا انا ، ولا يريد أن يسمعه أحد ، إلا أنا . كان يعرض معطرات للجو ، وروائح طبيعية ، منعشة أحيانا ، ومنفرة أحيانا ، وبلا رائحة أحيانا أخرى . كان يعرض الشعر ، وكان يعرض النثر ، وكان يعرض كلمات قليلة ، جدا ، بخط جميل ، يلتف فيتحدث ، تروي كل قطرة من قطرات حبره حكاية طويلة . لا يبدو أن أحدا يملك من الوقت ما يكفي لسماعها .

 كان يعرض لوحات سيريالية شديدة الغموض ، ولوحات ذكية تحمل فكرة واضحة لمتذوقٍ  نابه ، ولوحات أقل ذكاءا لكنها مرسومة بإتقان ، ولوحات واقعية ، تحمل الكثير من التفاصيل الحقيقية والثابتة ، والمعقدة ، ولوحات واقعية بسيطة ، ولوحات تعرض الواقع ذاته من زوايا مختلفة ، ولوحات صامته ، حتى أن ذلك البائع عرض جدارا أبيضا صامتا ، بمكان للوحة ، لكنه فارغ ، يجعلك فقط تتخيل ماذا كان يمكن أن يكون هناك من اللوحات .

كان البائع أيضا ، يعرض فصولا لمسرحيات واقعية ، وضاحكة ، و درامية ، و مقاطع مليئة بالحب ، وأخرى مليئة بالحزن ، وأخرى مليئة .. بلا شيء  .. كان يعرض ، فيما يعرض أيضا ، أصنافا من الطعام ، بعضها آنيّ اللذة ، يشعرك بالنشوة ، ليجعلك تنتظر توابعه الغير حميدة ، وبعضها مرّ الطعم ، تأكله ، لتستطيع مواصلة الانتظار ، لشيء قد لا يأتي ، وبعضها تسمتع به ، ويعكر رائحة فمك ، ويصرف عنك الآخرين . وبعضها لا يسمن ولا يغني من جوع . تدلك به أسنانك فيزيد فرص اقتراب أحدهم منك . .

كان البائع اللامرئي أيضا ، يعرض أحلاما ، وخططا ، ومشاريعا ، تستطيع شرائها ليوافيك بها بعد زمــن .

كان اختلاف البضاعة ، واختلاف أوانيها ، وأسعار الشراء الممكنة ، والفوائد المحتملة على المدى القريب والمتوسط والبعيد ، وعلى الأصعدة الذاتية والاجتماعية ، والواقعية وغير الواقعية ، يضع احتمالات لا نهائية ، لا نهائية تماما ، لما يمكن أن أختاره .

لم أكن قد قررت أن أشتري شيئا داخل السيارة ، لم أفكر في دعوة البائع المتجول إلى شقتي ، لأنني أعلم أنه سيصحبني إلى هناك . أخذت حقيبتي ، وعشاءا آني اللذة ، ساندويتش ، وبطاطس ، وبيبسي ، إلى الشقة . فتحت الباب ، شعرت أنني أصطحب جيشا من البضائع والباعة إلى شقتي ، أغلقت الباب بكوعي ليختل توازن يدي الممتلئة التي تحمل مايزيد على استيعابها ، فسقط البيبسي على السجادة ، وانسكبت كل محتوياته على السجادة البيضاء . صرخت بـ لااااااااا ... وجدت طريقها إلى سكون المكان بين أسناني المصطكة على بعضها ، شعرت بجيوش البضائع والباعة ، تركب أجنحة ، وترحل من المكان ، كسرب من الحمام المذعور في لحظة واحدة . وضعت الشنطة ، وجلست على ركبتيّ ، ووضعت كفّي على حدود البقعة التي تمددت على خارطة السجادة ، في مشهد يصلح لأن يكون ختاما  لفيلم يسمونه "عندما تتبخر الأحلام"  .فكرت في البائع الذي رمقني بنظرة ساخره قبل أن يغادر . " آسف لا أستطيع أن أبيعك شيئا الآن " ربما قالها . ربما تخيلت أنه قالها . أحضرت قبائلا من المناديل الورقية ، لنمسح القارة الجديدة من على وجه الخريطة ، دامت الحرب خمس عشرة دقيقة . فكرت خلالها ، في مجلس أمن العمارة الذي ربما يلاحظ ذلك ويطالبني بتغيير العالم/ السجادة . والعشاء ، الذي لم يعد آني اللذة ، والثلاجة التي لا بيبسي بها . وأسرع خطة لإحضار علبة بيبسي قبل أن يبرد العشاء أكثر ، وما إذا كان يمكنني أن أشرب شيئا آخر. تذكرت قصة ، وصورة كانت في كتاب أطفال أحضرته لي أمي قبل سنين طويلة جدا  ، صورة كارتونية لرجل يلبس ثوبا ، وجرة عسل مكسورة ، ومراقة على الأرض ، والرجل يضع كفيه على رأسه مولولا، ، والقصة تتلخص في أن الرجل رأى في الجرة حلا لكل مشاكله وبنى عليها قصرا من الأحلام ، حتى انكسرت وضاع كل شيء ، و جلس على ركبتيه ينظر إليها بالضبط كما أفعل الآن! قبل عشرين سنة كنت متعاطفا معه أما الآن ، أتذكر أنه لم يكن بحاجة لأن ينظف الأرض ! تلك الشخصية الكاريكتورية المرفهة !

عدت لأفكر في البضائع التي ترفعت عنها  . وكنت أفكر في انشغالي ، عن اللوحات ، والخط ، والشعر ، والنثر ، والأحلام ، بتنظيف السجادة . . كنت أجنّد مناديلا أكثر ، فأكثر ، أشعر بامتنان لها لأنها تعمل من أجلي ، وفي لحظة غريبة ، تذكرت أنها تشرب البيبسي الذي كنت أنوي أن أشربه !

وفي لحظة غريبة أخرى ، تذكرت أبيات شعر ، اشتريتها من بائع متجول آخر ، اشتراها من ديوان شعر لشاعر ،اسمه طارق أبو عبيد :

"أتصدقين ،

فتشت أمس عن لساعة

عن صورتك،ووجدتها مرمية تحت السرير

وفوقها آثار بيبسي

فتشت فيها عن ملامح حبنا المنسي .."

لماذا يترك البيبسي في شقتي كل الملامح المنسية-لأدعي أنني كنت أتذكرها قبل ان تملؤها اللزوجة المقرفة-  ، وتلك التي تستطيع أن تكون منسية بجدارة ، ليسقط على السجادة ...

انتهت الحرب ، بقت آثار دمار بسيطة ، أتمنى أن لا يلاحظها مجلس أمن العمارة ، تيمنا بمجلس الأمن العالمي ! ، ارتديت معطفي على عجل ، ونزلت إلى الشارع البارد ، أبحث عن أقرب بقالة ، ركضت إلى هناك ، وأخذت علبة بيبسي ، واحدة ، وعدت أدراجي .

أحضرت حقيبة العشاء البارد غير آني اللذة ، وغير حميد العواقب ، وضعت فيلما ، وبدأت آكل ، وأشاهده .

حينما أتيت إلى هنا ، لأكتب ، لمحت بائعا متجولا آخر يحمل عصا تصلح لإسقاط أعتى علب البيبسي  ، يبتسم ، داخل عقلي ، سمعته يتحدث إلى بائع آخر ، كيف أنه استطاع أن يجعل من أصابعي ، زبونا ً ، بالإكراه

 

 

أتاوا - 29مارس.2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق