الثلاثاء، 31 مارس 2009

من أين أبدأ ؟








لا أعلم من أين يمكن لي أن أبدأ ..
من حيث انتهيت في المطار ، واستقبلني وجه صديقي الباسم ، وابتدأت أدغدغ بطن أرض هذه المدينة بأقدامي حينا ، وأركلها حينا ، وأنغزها حينا . أم من حيث ابتدأت أنقل عيني الغريبتين وحاجبيّ المتصلين الأسودين بين أوجه حمراء ، وأعين ملونة ، وحواجبٍ شقراء دقيقة في مستشفى يكتظ بالخطى المسرعة وعربات المعوقين، وأكشاك الباعة ، وأكواب القهوة الورقية ، والعجائز !
أم من حيث أدرت ذلك المفتاح الحديدي لأفتح بابا أبيض يقودني إلى شقة ، بصالة جلوس وغرفة نوم ومطبخ ،وحمام لا تقوى بلاطاته على حمل الماء ،لا تختلف كثيرا عن حجم غرفتي في الرياض ! ويقال أنني سأسكنها سنة على الأقل ..
أم من حيث تعلبت تعابير الوجه ، والإيحاءات ولغة الجسد ، والحوارات ، والقفشات ، في كلمات حديدية تخرج من تنكة طويــــــلة بين الرياض وكندا ، في أحاديث نصفها على شاكلة (انا اسمعك ، تسمعني ؟) أو في حروف كيبوردية ، جامدة تحاول أن تحركها ابتسامات باللون الأصفر، وغمزات باللون الأصفر ، وضحكات هائية بلا صوت ..
أم من حيث ربتت التقنية على كتفي ، فرأيت أهلي يجتمعون في نافذة صغيرة ، فكأني أجلس معهم ، وأضحك معهم ، وأمزح معهم ، إلا أنني لم أستطع أن استنشق رائحة القهوة التي تملؤ تلك الدلة البيضاء ، لم أستطع أن أضع رجلا على رجل ، وأتناول فنجالا ، وأشرب ...
أم من حيث ، أجهدني غسل الصحون التي يبدو غسلها بعد الوجبة مباشرة اجتهادا لا محل له بعد وجبة صغيرة مازالت تتماوج في معدتي ، وتأخيرها ، مضاعفة لجهدغسيلها لا داع له ، فيتراءى لي دائما أن الحل الأمثل نقعها مع قليل من الماء ، وبعد ساعات قليل تتحول عملية الغسيل إلى مهمة إزالة مواد كيميائية خطرة ، أقوم بها بوجه يلتفت وعضلات رقبة مشدودة وغضاريف أنف تبتعد ما أمكنها عن مسرح الحدث .
أم من حيث أبحث عن فتافيت رقائق البطاطس بين خيوط السجاد كقطع ٍ ماسية ، أم من حيث الملابس المتكومة تنتظر الكي ، كقبيلة بدوية مريضة يائسة ، حكيمها يخبيء أسياخه ،رأفة بهم ، وربما به . !
أم من حيث وجدت في شقتي مكانا لأضع فيه ملابسي ، و علبا بلاستيكية كثيرة لأضع فيها القهوة التي شحنتها ، وثلاجة لأضع فيها طعامي ، وركنا لسياراتي ، وخزانة لكتبي ، ولم أجد مكانا أضع فيه كل ما أمتليء به !
أم من حيث تفتنني تلك المدينة أحيانا ، فتتلبس الزنابق الملونة ، وتهل الأمطار ، وتبعث النسمات
تمسح على خدي و تقول لي : لا بأس !
أم من حيث الأوجه الغريبة ، والأحاديث العابرة في الحافلات ، أم من حيث أعين الأصدقاء التي تمتليء بالحلم ، وبالسعادة وبالغربة ، وبالأمل ، وبالخوف في آن !
أم من حيث رأيت الثلج للمرة الأولى ، وقدت سيارتي فوق تلال الثلج للمرة الأولى ، ورأيت قوس قزح للمرة الأولى ، وتبللت بشلالات نياقرا للمرة الأولى ، وعاينت مريضا إيطاليا ، وبولنديا ، وإغريقيا ، وكنديا .. للمرة الأولى ..
أم من حيث تمددت على جانب النهر ، ومشيت جوار القناة . أم من حيث تكومت على كنبتي أحاول أن أرتب الحنين ، وأجهز الرفوف الفارغة لتستوعب ما سيأتي ..
تمر الصور ، والمشاعر ، والتجارب ، سريعة ، بالضبط كما تخيلت ، روللر كوستر ، مازالت تسابق الريح .. طيبة بما يكفي لتجعلني أتوقف قليلا ، وأكتب ، ثم أمتطيها مرة أخرى ...
ربما أتوقف مرة أخرى ، وأبدأ . . من حيث .. أي شيء ..
أتاوا 30 يونيو 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق