انتهى الشهر الآخر ، عزرائيل لم يبتسم لي . إلا أنني تأقلمت مع الموت ، تعلمت العناصر المهمه في نهاية رواية الحياة ، ذلك الكائن الذي كنت أراه وهو يلتهم الناس على حين غره ، رأيت الله يأمره ، فينتظر في مكان قريب يشحذ أنيابه( ليفترس)، أو يقلم أظافره (ليحمل بوداعه ) ، حتى تفرغ الضحية من انهاء الطرف من مؤسسة الحياة . يحصون ممتلكاتهم ، يشترون سكنا في البرزخ على هيئة تابوت ، لم يفكر أحدا في أن يؤجر واحدا بدلا من شرائه ، ربما لأنهم لا يعلمون كم سيقضون من الوقت هناك ، يجمعون خلصائهم يعتذر من يعتذر ويسامح من يسامح ، يحضرون حبال العلاقات المعقدة ويحاولون فك ما يستطيعون منها ، لم يعد هناك ما يهم ، يأتي من يأتي من مكان بعيد ، ليتلو مراسم الوداع ، ويرحل .
يكتبون وصاياهم، يتحدثون مع المرشد الديني ، يتأكدون من أن كل شيء على مايرام، يبتسمون ، ويغمضون أعينهم، وينتظرون عزرائيل .
إلا أن محاولات الإنسان البائسة ، للتحكم في كل شيء ، لا تكون ناجحة دائما ، فقد رأيت من انتهوا من كل شيء ، ومن ثم وصلوا إلى مرحلة من الملل ، والسخط ، (لماذا لا تأخذني يا الله ! أنا جاهزه ! لقد انتهيت من كل شيء ) ويعيشون بعدها يستقبلون كل يوم صفعات الملل مستسلمين ، ورأيت من كانوا يأملون أياما ، ينتهون بها من كل شي ء ، ويفاجئهم الموت .
مريضتي الأخيرة ،إنسانة يقتات القلق على آخر ما تبقى من أعصابها . كانت تحمل إلى جانب سريرها الكثير من الأوراق ، وكانت تتوقع ، وكنا نتوقع ، أن تعيش أسبوعا آخر . كانت تكتب مسرعة ، قلقة ، تحاول أن تدرك ما يمكن إدراكه ، تقول لي في كل صباح أنها ترغب في أن تنتهي من وصاياها فقط لترتاح ، في اليوم الذي يسبق موتها بيوم ، طلبت من زوجة ابنها ان تغادر الغرفة ، لأنها تريد أن تتكلم في أمور خاصه ! وابتدأت تثرثر معي عن الوصية . جئت ذات صباح ، وجدتها تشفط ذرات الهواء بقلق ، خائفة ، مرتعبه ، لا تستطيع ان تتنفس ، فقط تقول .. (لا اقدر ان اموت الآن ... لا اقدر ان اموت الان .. ) بعدها بساعات ، تحولت المريضة القلقة المتطلبة ، إلى جثة المريضة الهامدة الباردة ، وانتقلت من الغرفة ، إلى الثلاجة ، لم يعد لديها الكثير من الأسرار .
بعضهم يموتون بسلام ، تمر عليهم كل صباح ينظرون إليك بطرف أعينهم النائمة ، يهزون رأسهم علامة النفي بهدوء عندما تسألهم عما إذا كان هناك مايمكن فعله لجعلهم يشعرون بالراحة . وبعضهم ، يبلغ القلق منهم كل مبلغ ، يقضون ايامهم الأخيرة في قلق يتصاعد حتى يصبح له كفين ، ويخنقهم !
بعضهم تراهم يتركون أكوابا يمتليء بعضها بعصير الحياة اللذيذ على الطاولة إلى جوار السرير ، دون أن يحفلوا بارتشاف ماتبقى منها ، وبعضهم تراهم يتشبثون بنفس الأكواب ، ولكنها فارغة يحاولون اعتصارها حتى آخر قطرة ، يلحسون ماعلق بها من بقايا العصير ، ولا يبدو أنهم يتذوقون شيئا . أفكر ، ربما كانت الأكواب نفس الأكواب ، ولو التفت هؤلاء الراضون الصامتون ، إلى ماتبقى في أكوابهم ، لاجترعوها في لحظة ، ولقضوا لحظاتهم الباقية ، في تنقيب ٍ جزع ، عن بقاياها .
المرشدة الدينية ، كانت تستمتع بإجازة حينما اقترب وقت انتهاء دورتي هناك . طلبت من الطبيب الذي أعمل معه ، أن أتحدث مع المرشد الديني الآخر ، وفي يوم من الأيام ، دخل شاب على كرسي متحرك ، أطرافه ضعيفة جدا ، لا يتحكم بها جيدا ، إلا بمقدار ما يحتاج ليدفع العجلات ، ساعداه ضعيفان ،رجلاه معلقتان في جذعه كأنهما لا تنتميان إليه . ملامحه هادئة ، حزينه ، إلا أنه يبتسم . تكاد تظنه واحدا من المرضى لولا أنه يعلق فوق صدره بطاقة المستشفى ، . يشع من عينيه بريق يصعب تفسيره . عرفنا الطبيب ببعضنا ، بادرته بأني أرغب في أن أعرف شيئا عن عمله ، وأن اليوم هو يومي الأخير ، اعتذر لأن جدوله مزدحم في هذا اليوم ، أخبرته أن سيكفي لو دردشنا قليلا في الموضوع ، فلم يمانع ، ولكن الحديث بعد ذلك كان ممتعا ، وطويلا .
قلت له : - يهمني أن أعرف بعض الأشياء عن المجتمع الكندي ، وإيمانهم ، ومبادئهم ، حينما يتعلق الأمر بالموت ، ذلك سيساعدني في فهم كيفية نظرتهم إلى حياتهم ، لأنني سأعمل في تخصص الطب النفسي ، أعلم ان الوقت لا يتسع لهذا ، لذلك تستطيع أن تبدأ بإخباري ، ما تود أنت قوله عن عملك هنا ، وكيف تساعدهم
-يأتي إلى هنا أناس مختلفون ، من اديان مختلفة ، أجلس معهم طويلا ليتحدثون هم في البداية ، لأعرف درجة إيمانهم ومعتقداتهم ، وكيف ينظرون إلى حياتهم السابقة وماذا يعتقدون فيما بعد الموت ، و يكون نقاشي معهم بعد ذلك معتمدا على ما قالوه هم .
-إذن أنت لا تقول لهم شيئا حينما يسألونك ؟ ، مثلا ، ماذا تقول لشخص يسألك أين سيذهب بعد الموت .
-لا ، أسأله أين يظن هو أنه سيذهب ! وإذا كان سوداوي النظرة ، يلتفت لما ورد في الأديان عن العذاب ، دون الرحمة ، أذكره برحمة الله .
-ماذا يحصل إذا كان هناك شخصا ، يقول أشياء خاطئة جدا ، ويحمل معتقدات غريبه ، وواضح أن ما يظنه غير صحيح .
ابتسم ، وفكر ، وقال :
-حينما يعيش شخص ثمانين سنة يؤمن بشيء خاطيء ، لن آتي في آخر لحظات حياته لأغيره ! أحاول أن أحترم معتقده ، وأتحدث معه بناءا عليه .
طبعا لم نتفق على تعريف (خاطيء )، ربما بالنسبة له الخاطيء هو من لم ينحني احتراما لابن الرب ، ويذهب للكنيسة في كل أحد . سألته ، ماذا يجب على الشخص أن يفعل كي يصبح مرشدا دينيا ؟
أجابني : درست علم النفس وتخرجت منه ، وبعد ذلك درست الأديان لمدة سنتين.
سألته : أيهما تستخدم أكثر : علم النفس ، أم دراستك في الأديان ؟
فكر طويلا ، طويلا . وأجاب : كليهما !
كان الحديث ممتعا ، تشعب كثيرا ، واختصرته هنا .
انتهيت من دورتي تلك ، بعض المرضى كتبوا – أو كــتبت لهم – نهايات رواياتهم ، حضرتها ، وكتبت صفحة مطبوعة يسمونها
Death summary
لربما كان يجدر بهم أن يسمونها خلاصة الحياة . وبعض المرضى بقوا هناك ، أحدهم يصعب علي نسيانه ، في الخمسينيات من العمر ، رقبته مفتوحة ، لا يستطيع ان يتكلم إلا بشفاهه ، احاول أن أقرأها كل يوم ، وحينما أقرأها يعطيني ابتسامته جائزة ويغمز ، ويرفع إبهامه منفردا . أخبرته أنني لن أكون هنا بعد الآن سأذهب إلى مكان آخر ، تغضن وجهه ، زم شفاهه ، ورفع كفيه إلى الأعلى . الممرضة السعيدة ، تضحك أكثر كل يوم ، تحمل أكواب عصير الحياة اللذيذ معها أينما حلت ، رأيتها مرة تغادر المستشفى على ظهر دراجة نارية ، تهافتها على هذه الأكواب ملفت ، ربما ستكون من الذين يلعقون الأكواب الفارغة يوما ،وليس ثمة عصير ، أو ربما ستنتظر يوما إلى ماتبقى من أكوابها بعين الاكتفاء، لأنها لعقت كل ما كان يمكن لها أن تلعقه ! لا أدري !
Ottawa
29 August-2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق