الثلاثاء، 31 مارس 2009

رمضان مرة أخرى


 
قدسية رمضان التي هربت من المكان تكومت في أجسادنا ، الأصوات التي تنبعث من المساجد أصبحت تنبعث من جهازي ، وسمبوسة رمضان التي تلفها أمي ، أصبحت تشترى من المحال العربية في علب بلاستيكية شفافة ، وتمر رمضان الذي كان يخرج من نخل قريب ،  يخرج من خزائن المطبخ في شقتي وبيوت الرفاق، بعد أن غادر مكتب الجمارك في كراتين تحمل رائحة السفر  ، والقهوة العربية التي كانت تملؤ كل مكان أصبحت تملؤ أماكنا صغيرة متفرقة  ،واللبن الأبيض الذي كنت أحب تناوله مع التمر أصبح حليبا معدلا لايشبه اللبن إلا في لونه وكثافته . والمسلسلات التي كانت تخرج من الشاشات الكبيرة ، وتستثير ضحكات كثيرة ، أصبحت تخرج من شاشة المحمول الصغيرة ، وتستثير ضحكة واحدة . أو ضحكتين على الأكثر .
وسفرة رمضان التي أجلس عليها مع أهلي ، وأتحاشى دعوات الفطور بسببها ، أصبحت زيارات إلى دكان قهوة ، وقطعة دونات ،أو قضمات صغيرة في الشقة ،  ينقذني منها دعوات لا أتحاشاها . 
لم يكن يضايقني يوما أن آكل وحدي ، كنت أحيانا كثيرة أجلب عشائي أو غدائي  إلى المنزل وأتناوله امام التلفاز ، أو أجلس في مطعم أقرأ جريدة ، أو أرتب أوراقا ، أو أفعل شيئا ، وآكل .  لكن شعور أن تفطر وحيدا ، لم أجربه من قبل ، ربما جربته مرة أو مرتين في المستشفى في الرياض  ، حينما ابتدأنا بالمناوبات ، لكن كان هناك دائما العديد من الرفاق ، وسفرة دافئة في الغد تعوضني ما نقص من دفء ذلك  اليوم .  أما الآن ، أن تراقب الساعة في انتظار دخول الوقت ، ثم تقوم بعدها تبحث عن شربة ماء ، أو حبات تمر ، أو حبة فاكهه ، وتشعر أن لا أحد هناك ، وليس ثمة ركبة تلتصق بركبتك القريبة من الأرض ، وليس ثمة فاه آخر كان يمكن له أن يشجعك على صنع قهوة قبل الفطور ، أو ترتيب سفرة صغيرة ، أو حتى أن تسمي بصوت عال ٍ ، أو تقرأ دعاء الفطور لتذكره بقراءته ، وليس ثمة أخ تشاغبه لأنه أكل أكثر مما ينبغي ، أو أخت تشاكسها لأن الحلوى التي صنعتها لاتشبه الصورة التي بنت خطة صناعتها عليها في شيء ، أو أم تدير فنجان قهوتك إلى جهتها وتبتسم ،حتى تعلم بأنك تريد آخر ، وتستحي من إزعاجها . ليس هناك الكثير من الأيدي التي تقرأ العيون ، لتعيد ترتيب الصحون على المائدة ، فأقرب لهم مايريدون ويقربون لي ما أريد . أن أفطر بدون أن ألتفت . وبدون أن أبتسم .وبدون أن أناول الصحون أو أتناولها .   فهذا كم من الحزن أكبر من أن أحتمل ، وكم من الوحدة أعظم مما كنت أستشرف .
يؤلمني شعور مراقبة الساعة في انتظار دخول الوقت ، من كان يتوقع أنه سيراقب ساعة لكي يفطر ؟ ، في الرياض كان يمكنني أن لا أحمل ساعة وأعلم بالضبط متى يحين الوقت  ، لو كنت في البيت سيجلس أشخاص كثر إلى نفس المائدة ، ستخرج شاشة صفراء بفانوس بني مكتوب عليها بخط كوفي (صلاة المغرب) ، وسيتحدث صوتٌ بنبرة عتيقة  : ( دخل الآن وقت صلاة المغرب ، حسب التوقيت المحلي لمديــــــــنة الرياض )، وسأرى الجميع يتناولون تمراتهم ، ولو كنت لا أرى ، سأسمع صوت المؤذن ، في ثلاثة مساجد على الأقل ، وفي سماعات التلفاز ، ولو كنت لا أسمع أيضا ، سيناولني أحدهم فنجان قهوة ، وسأحس به وأشم رائحته . ولو لم أكن في البيت سأرى أشخاصا يحومون على إشارات المرور بعلب تمر صغيرة ، وقوارير ماء .  ولو كنت في المستشفى ، سأسمع صوت الأذان الداخلي المسجل .  لكنني هنا ، أراقب الساعة ، بلا أية فرص أخرى للمعرفة ، و  بلا أية احتفال ، ربما كان ذلك إشارة إلى أن ماسيأتي بعد ذلك ، أقل من أن  يحتفى به .
فرحة الصائم الأولى ، بفطره ، أصبحت أقل ، يشوبها الكثير من الحزن ، ربما كان في ذلك إشارة إلى أن الفرحة الأخرى ، ستكون أكثر . 
 
أتمنى .


أتاوا
30 -Sep.2007

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. كما أنني تعودت على الإفطار وحدي في غربتي .. التي أصبحت غربتين و سجنين في الآونة الأخيرة...
    كنت أفطر أمام شاشة الماك....و أحمد الشقيري يلهيني ما بين تاريخ اليابان الحاضر... وتاريخ الأندلس المحتضر

    أصبحت أراود المركز الإسلامي مع طلاب و مغتربين قبيل الغروب، نحمل حقائب مُلئت بفراغ الوحدة.
    نبتسم لننصب في عالم أخوتنا خيمة تحوينا وسط "قفار" هذه المدينة بين جبالها الإسمنتية

    تصعب ساعة النتظار قبل الإفطار لما يتجلى فيها من معاني الصمت...
    تعلمنا أن نستمع للغير و نحترم آراءهم.... و لكن ما تعلمنا "الصمت" والاستماع لصوتنا.... أصبح كصفير الرياح من فتحة النافذة... نرتعش و نشعر بأنه دخيل غير مرحب به

    ردحذف