تمر الأيام ، أعمل معجزة صغيرة في كل يوم . أهبط حتى ألمس القاع بقدمي قبل أن أدفعه . وأصعد حتى أتنفس كما أحب بعيدا عن الغرق ، ويحملني الماء حانيا ، وكأنه لم يكن يخنقني بالأمس بعيدا عن أعين الشمس .
ثقوب حزني في نافذة الوحدة ، أحاول أن أحكم إغلاقها ، فلقد دخل ما يكفي من الحشرات . قبل أن يحمل كف كبريائي مبيدا ، وألتقطها واحدة واحدة ، وأضعها في منديل ، يجد طريقة إلى سلة مهملات ، مليئة في ذاكرتي . أفتح نوافذ أخرى وجدت أنها أوسع مما كنت أتخيل، تمرر أشياءا استقبلها باسما ، وراضيا ، ممتلئا بالقناعة .
أنقل خطواتي في المستشفى صباحا ، وظهرا ، وعصرا ، وليلا ، وفجرا . أمسح بيدي العربيتين على أجساد كندية بيضاء . أخزن لغتي التي رضعتها مع الحليب لكل من يحمل ملامحا تشبه الوطن ، وأستعمل اللغة التي شربتها مع البيبسي ، وفطائر ماكدونالدز لكل الأشياء الأخرى . أقهقه في الاجتماع الصباحي على (جيمي ) طالب الطب ، الذي يتحدث بلغة الشارع ، ويتفوه بأشياء لا يصح أن تقال في اجتماع محترم ، يقهقه الجميع ، يؤنبه الاستشاري على ارتياحه الزائد ، ولا يبدو أن جيمي يستوعب شيئا مما يقال . ينوي أن يتخصص في الجراحة ، لن يهم كثيرا ما يقوله لمريض تحت التخدير . نتفرق بعد الاجتماع ليهتم كل واحد بمرضاه . تمر أوقات لا أحصيها ، حتى أجد نفسي في كافيتيريا المستشفى أبحث عن أي شيء لآكله قبل أن يغلق في الساعة السابعة . يعود الوقت ، ليركض ، لأجد نفسي مرة أخرى على سرير ، في غرفة ضعيفة الإضاءة ، بملاءة بيضاء ، ومرتبة بلاستيكية ، ومخدة بلاستيكية ، لا تصلح إلا لإراحة شخص لم يتوقف عن المشي ليوم كامل . أضع رأسي على المخدة وأفكر ، متى سأتحصل على ما ابتعته بكل هذه المبالغ المرهقه؟ هل أدفع أكثر مما يجب ؟ ربما أقل مما يجب ؟العامل الذي كان يمسح أرضية المستشفى بعد أن خوت على عروشها يتعب أيضا! مالذي يصنع الفرق بين التعب الذهني والتعب الجسدي ؟ التعب الذهني أصعب ، لأنه يكوم الاشياء داخلك ، بينما التعب الجسدي يلقي بها إلى الخارج ! .. لحظة ! الآن من المفروض أن أرتاح ذهنيا وليس العكس ! . . أين من الممكن أن أجد قهوة في مثل هذه الساعة ؟(قهوة ايش !) يفترض بي أن أحاول أن أنام ..الآن النوم لا يحتاج لأية محاولات ، ربما النهوض منه يحتاج لبعضها . لن أنام ، بقي ثلاث ساعات على اجتماع الصباح ، لا لا .. يجب أن انام حتى أستطيع إكمال اليوم بشكل شبه معقول . . حسنا سوف أنام ...
يفض البيجر غشاء الصمت ، ترك لي لحظات أداعب النوم ، تكفي لأعلم كم أحتاجه ، وكم أشتاقه ، أتركه على السرير البلاستيكي ، أغسل وجهي ، أرتب الشيب الجديد في شعري مع الشيب القديم بعد أن لاحظت أنه يجلس بعيدا كطالب مدرسة في يومه الأول ، أرتدي معطفي المجعد ، أرتب أجهزة النداء ، والهاتف ، والكمبيوتر الكفي بين الفتحات والجيوب ، وأخرج إلى الممر . أصنع بأقدامي صوت موسيقى كنت أسمعها صغيرا في مسلسل كرتونيّ ، ترت ترت .. ترت ترت ... ترات تريت ..ترات تريت .. ليس ثمة صوت يعكر تلك الموسيقى ، حتى أصل إلى الإسعاف ، ويتداخل الصوت مع أصوات الأنات ، وبعض الصراخ ، وثرثرة من يحاولون التعامل مع تلك الأنات ، وذلك الصراخ .
أبحث عن اسم المريض المنشود ، أجده مكتوبا على السبورة البيضاء ، أتوجه إلى الغرفة وأستلم الملف ، تاريخ الولادة ، يصلح لكتب التاريخ ، في التاريخ ذاته كان هناك شابا في العشرينات من عمره ، يدعى عبدالعزيز بن عبدالرحمن ، يحارب على صهوة جواده ليصنع لي شيئا أدعوه اليوم وطنا وأشتاق إليه ، من كان يدري في لحظة الولادة ذاتها ، ماذا كان يفعل ذلك الشاب ، ربما كان يخطط لضم الحجاز إلى نجد ، ربما كان يمسح بطن امرأته الحامل بالملك فهد ، أو عبدالله . ربما يضع بشته على المشجاب ويستعد لإيصال حيامنه إلى حيث يمكن أن تصبح ملوكا . أقدّر أن مريضي كان مراهقا حينما أُعلنَ عن توحيد المملكة العربية السعودية وتسميتها في 1932 . هل سمع بذلك ؟ هل تخيل في أكثر خيالاته انفلاتا أنه سيجلس على سرير ، في مستشفى ما في كندا ، ويأتي طبيب من هذا المكان ليعاينه ؟
. أذهب إلى السرير أتحدث مع الكائن التاريخي ، أسحب الستارة خلفي ، وأسلم عليه ،ثم أبدؤه بترجمتي الخائنة لـ (عسى ماشر؟ ) ، لا يسمعني ، يقول : لا أستطيع أن أسمعك ؟ عمري 94 عاما ، هل تعلم ذلك ؟ ..
يخرج صوتا يشبه الصراخ من فمي المبتسم :"بالطبع أعلم ذلك ، آسف، سأحاول أن أرفع صوتي ، وحاول أن تسمعني ."
وأفكر ... لا تبتئس يا صديقي العجوز . لست أول شخص لا يسمع شخصا يحاول أن يساعده .
أعود إلى الممر ، أجر أقدامي المنهكة ، أنتظر المصعد ، أغلق أجفاني واقفا ليمر تيار النوم لثانية ، قبل أن يدرك أنني واقف ويحدجني بنظرة قاسية ، حيث لا يفترض بأحد أن يغلق عينيه إلا حينما يكون جاهزا حيث يمكن للنوم أن يؤدي وظيفته كامله . أسمع رنة المصعد ، أستقله ، وأذهب إلى غرفتي . أفرغ حمولة المعطف ، أرتب أجهزة النداء إلى حيث يمكن أن أراها في الظلام على طاولة السرير ، وبجانبها هاتفي الذي أستطيع استعماله كمصباح صغير . يؤلمني بطني ، أتذكر أمي ، وماكان يمكن أن تصنعه من ميرمية في مثل هذه اللحظة ، أحدق إلى السقف ، أشعر بالجوع ، وليس ثمة وجبات تخرج من قدور دافئة في الأفق ، أشعر بالبرد ، ولا يمكن لشيء أن يرمز لاحتياجي مثل تشبثي بالملاءة الرقيقة ، والسرير البلاستيكي تحتها ، دون أن يفعلا شيئا . أشعر بكل شيء . بكل شيء . يتسلل كل شيء من زجاجة الصمت الكبيرة إلى زجاجة صمتٍ صغيرة أستطيع أن أنام داخلها . . . أقفل أجفاني ، ببطء . لأحتويني . وأنام . .
وقبل أن تعانق آخر شعرة في رمش عيني اليسرى الأعلى ، آخر شعرة في رمش عيني اليسرى الأسفل .. يكسر جهاز النداء زجاجة الصمت..
أترك النوم ، مع أشيائي المبعثرة ، البرد ، والميرمية ، وشظايا الزجاج على السرير . . أرتدي المعطف ، أرتب الأشياء في الجيوب . .
أقرب طالب المدرسة الجديد لأصدقاءه الجدد . .
أخرج ، وأستمع جيدا . .
ترت ترت .. ترت ترت ... ترات تريت ..ترات تريت ..
أتاوا -إبريل -2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق