الثلاثاء، 31 مارس 2009

يهتريء قلبي




يهتريء قلبي ، كياقة القميص الذي يغسل مرات ومرات ، ومرات ، يتعكر ، ويعود فيبدو نقيا ناصعا ، ويدور في هذه الحلقة المعدنية المفرغة (إلا من الملابس)حتى تهتريء ياقته ، وتبدو قديمة ، لا أحد يعلم متى حصل ذلك بالضبط ، وفي أي غسلة ، المهم أنها تبدو مهترئة ومهلهلة ، لا تستطيع أن تقاوم الريح ، ربما لو جذبها أحدهم ، ستنخلع من مكانها ، لا يظهر أنها تستطيع أن تقاوم غسلة جديدة ، ربما تفتتت ، ربما تخرج من داخلها مادة داكنة تغير شكلها إلى الأبد .
أحاول أن أتذكر لماذا يحصل ذلك معي بالذات  ، ربما الآخرون يغسلون قمصانهم على فترات متباعدة جدا ، ربما هم لا يبالغون في دعك القميص عند غسله ، ربما ياقاتهم أشد صلابة من ياقتي ، ربما هم لا يغسلون قمصانهم  أبدا ،  ربما يملكون قمصانا ليس لها ياقات تهتريء ، ربما  هم لا يملكون قمصانا أصلا  ، أو ربما لديهم القدرة على تغيير قمصانهم بحسب ظروفهم .
أو ربما يكون السبب يتعلق بي وحدي ، ربما أغسل ياقتي أكثر مما يجب، ربما أبالغ في الدعك ، أو أنثر كمية أكبر من المسحوق ، ربما أتضايق من كدرها أكثر مما ينبغي لي فأغسلها دون أن أحتاج ، ربما رقبتي تتعرق كثيرا ، ربما حظي ، يجعلني دوما ألتقي بالغبار .
أتذكر أنني لم أكن أغسل قميصي فقط عندما يعتريه بعض الوسخ ، أتذكر أنني كنت أغسله إذا تلون بأي لون  آخر ، أذكر مرة أني غسلته لأن بعض اللون الأحمر كان يرقص فوق الكتف الأيسر ،كان شكله مبهجا ، لا أدري لماذا غسلته ذلك اليوم ، ربما شعرت بالاستحياء من البني والأسود لطيبة ٍ حمقاء تعتريني أحيانا  ، أو ربما إمعانا في الانتقام من البني والأسود ، اللذان يختبئان بدرجاتهما في أماكن أخرى من القميص ، فأخبرهما بذلك  بأنني أريد التخلص منهما (سو باد) ، ولو على حساب أحمر جميل .   وغسلته مرة لأن لونه كان يشبه اللون الأصفر ، بل أذكر مرة أنني غسلته لأن لونه كان أبيض مما يجب ، وأحببت أن أرى ماذا يحدث إذا غسلته .  وفي ليلة أخرى ، تمنيت ساعتها أن تبتلع الأرض قميصي ، غسلته عشر مرات غير ناجحة تماما ، لأن بعض (الزفت) علق به ، الغريب في الأمر أن شخص الشارع الذي نثر ذلك السواد المقيت على قميصي برعونته ، جاء بعد زمن ليدعي أن باستطاعته إزالة (زفته) دون غسيل ، وحينما نظرت إلى ياقتي المهترئة ، ياقتي التي لم يلاحظها ، كدت أن أصفعه ، استمر في ادعاءاته ، ولكني لم أصدقه . نظرت إلى قميصه فوجدته دون ياقة .  ففهمت . كان يجدر بي أن ألاحظ ذلك قبل أن أقف إلى جواره في الشارع .
هناك في المقابل ، أناس رائعون ، يملكون مساحيقا لا أملك مثلها ، فأشعر وكأن قميصي اتسخ فقط لأني لم ألقي إليهم بقميصي  الذي  يجيدون إكرامه ، منذ زمن . فإذا التقيت بهم ، يغسلون قميصي الأبيض ، المعكر قليلا من غبار الطريق إليهم ،والطريق عنهم ، وبعض أشخاص الشارع ،  فيبدو أشد بياضا ، إلا أن تلك النصاعة وذاك الألق ، لم يمنعا ياقتي من أن تهتريء ، فغسيلهم ، رغم كل شيء ، غسلة جديدة .
ياقتي المهترئة ، وقفت إلى جواري كثيرا ، عانت معي من الكثير ،كنت أحس أحيانا بأنها تحمل رأسي ،  جاملتها أحيانا ، وجاملتني أحيانا أخرى ، لسبب يخرج عن إرادتي ، لا أستطيع أن أشتري قميصا جديدا ، ولا أستطيع أن أخيط ياقة جديدة ، حتى لو فقدت قميصي رغما عن إرادتي ،ودون سابق إنذار ،  كما أظن  ،لن يستطيع الناس رؤيتي دون قميص، وسأغيب عنهم تماما ، وسيتحدثون عني بصيغة الغائب  ، ويغلب على ظني أنني لن أستطيع رؤيتهم أيضا . 
أتمنى لو كان بإمكاني تجاهلها ، وتجاهل اهترائها بهذا الشكل ، ولكن المشكلة أنني كلما أردت إدخال رأسي أتذكر كم هي مهترئة ، وأخشى أحيانا أن لا يعجب شكلها  الآخرين ، وأحيانا أخرى حينما يعجبني شخص إلى درجة أنني أريده أن يجرب قميصي على رقبته ، أو بالأحرى أريد أن أجرب رقبته على قميصي ، أخشى أن يمنع اهتراء الياقة انسيابية الدخول إلى القميص ، وأخشى أن يلاحظ ذلك  حينما يقترب بتلك الدرجة ويدخل رأسه قليلا ، ويأتي دور عيناه في التفرج على الياقة عن كثب .  المشكله الأخرى  أنني أخشى أن يكون شخصا لا يعرف  أن يغسل القمصان جيدا ، فيغسلها أكثر ، وتنصع أقل ، و تهتريء ياقتي أكثر ، أو الأنكى من ذلك أن يكون شخصا ، يقوم بتوسيخ القمصان عن قصدٍ أو دون قصد ، فأستمر في الغسيل وتستمر في الاهتراء .  أو أن يكون شخصا لا يعلم عن الياقات شيئا ، ولا يعلم عن غسيل الياقات وكيها شيئا ، فيجعلها تهتريء دون أن يدري ، ولا يلاحظ حينما أجيد كيها ، حتى  تبدو أقل اهترائا  .  مشكلة أخرى ، أواجهها ، وهي أني لا أعلم إذا كان يجدر بي إخفاء ياقتي أم إظهارها ، أرى الكثيرين يخفون ياقاتهم ، لدرجة أنني أجيد صعوبة في أن أعرف ما إذا كان هناك ياقة أصلا . ربما حين أخفيها يكون احتمال اتساخها أقل ، لكن في المقابل ، لاتعني هذه النظافة "المخفية" شيئا . حينما أخفيها ، لن يجدني من يهتمون للياقات مثلي ، وحينما أظهرها ، سأشعر أنني أتسول الملاحظات الذكية ، من أناس بخلاء بذكائهم أو بملاحظاتهم  ، فأهدر ماء وجهي ، وبالتأكيد ، سيتسلل ذلك الماء إلى رقبتي ومن ثم ياقتي ، فتهتريء أكثر ، وأكثر ، كلما مر أحدهم ! 0                   
ربما يجدر بي أن أقلب الياقة إلى الداخل ، حيث يلاحظها من يهتم ، ولا يصادفها من لا يحفل بوجودها . حيث لا يصل إليها شيء من الكدر .حيث ترتبط بداخلي أكثر من خارجي .  وأستطيع ، عندئذٍ ، أن أتركها تتنفس الهواء  في المناسبات ، بحركة بسيطة . لكن ربما يلزمني بعض الزمن ، لكي أجيد إخفاءها ويظل قميصي مرتبا  . فقط  بعض الزمن .

مطار لندن ، 21 ديسمبر
 2007
*photography by Marco Bianchetti . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق