الثلاثاء، 31 مارس 2009

إطلالة من فوق زجاج النظارة السوداء




يتقشر جلد الوجع الميت ، بعدما عدت من شاطيء الحزن ، وسلخت جلدي شمسه اللاهبة ، يفسح الطريق لجلد جديد ، أحمر ، لا يسلم من قليل من الوجع العادي ، وبعض من وخز الغربة ، لكنه جديد ، أكثر نضارة ، وأشد إشراقا ، وأعظم مقاومة .
 
السماء تبتسم لي من خلال فتحة السقف في السيارة الجديدة ، الأشجار تهز أوراقها راقصة إذا مررت ، حتى إن فتاة تجلس في المقعد الخلفي من السيارة المتوقفة أمامي في إشارة المرور ، قررت أن تلوح لي مبتسمة ، قبل أن ترفع يديها كمن لا حول له ولا قوة ، بعد أن أسرع قائد سيارتها ، وابتعد . أتفحص وجهي في المرآة ، ربما يجدر بي أن أحلق وجهي هكذا دائما .
عادل إمام يطل علي من شاشة الكمبيوتر ، يدغدغني بأصابع مسرحياته ، أضحك في الشقة وحدي ، أستمتع بصحبتي ، ونضحك سوية .
أذهب في طريقي  إلى اجتماع القسم الصباحي ، أسلم على كاتبة القسم الهندية الواقفة بجوار الباب دائما ، تختفي عيناها ، لا أبحث عنهما ، أبتسم لفكرة أن أحدا ستبتسم له يوما سيتفحص وجهها بيديه بحثا عن عيناها . أرى المريض الهرم الذي أصابه الخرف منذ سنوات لا أعلمها ، بعربته التي يضعونها في الممر العريض لسبب لا أعلمه ، يسألني بلهجته الريفية العجوز :  ( هل تريد أن تشتري قاربا أيها الرفيق  ؟؟ )
Do You Wanna Buy A boat ,fellow ?
، حينما ابتدأت التجديف في نهر القسم ، كان يناديني وأستجيب ، كان يسأل أسئلة غريبة ، وأحاول أن أجيب ، حتى سألني إن كنت أريد قاربا ، فـ(عرفت الطبخة) ، حينما أجبت بالنفي ، سألني إن كنت أريد أن أشتري شيئا آخر نسيته ، وحينما قلت (لا شكرا  ) قال هل تريد أن تشتري أي شيء ! ..
Do You Wanna buy ANYthing ?
كأنه يلمح إلى أني مشترٍ غير جاد ، وجئت فقط لتضييع وقته ، سامحني ياسيدي !
أدخل الى غرفة الاجتماع ،  يتحدثون عن المرضى الذين شرفونا في الجناح ، يتكلم الطبيب المناوب ،  لا أدري لماذا قرر صديقي المصري الظريف  أن يسميه (الوله العبيط ) في أول يوم رأيناه فيه . يقول شيئا عبيطا ، ينظر لي (شريف) ، ويكتم ضحكة فأكتم ضحكة أكبر منها .
نخرج من الاجتماع ، أمشي إلى جوار الاستشاري العجوز الذي أعمل معه ، يحمل عصاه السوداء ، ويعرج ، أفكر فيما يمكن أن يحصل لو قلدت عرجته وأنا أمشي جواره في الممر ، أرتب ابتسامة مهذبة على هندام وجهي ، وأستمر في المشي  .   يمر إلى جوارنا أحد المرضى ، أكثرهم تكسرت الحواجز لديهم بين ما يمكن وما لا يمكن أن يقال ، "كيف حال رجلك اليوم " يقولها ذلك المريض ، ويبتسم العجوز الذي ما انفك يعرج منذ عشرات السنين ، "بخير " .
نبدأ بإخراج الملفات من أعشاشها الليلية ،  نقلب مافرخته الليلية الماضية من البيض ، بعضه أبيض منمق صغير ، وبعضه كبير ، ومكسور ، وعليه الكثير من الأشياء الخضراء .
أذهب لتناول القهوة في المقهى الصغير في الدور الأرضي من المستشفى ، أنتظر المصعد ، أو المهبط في هذه الحالة ، يستقله معي مريض من الجناح ، بشوش الوجه ، أبيض اللحية ، يسألني هل أنت مسلم ؟ ، قلت له : نعم .  قال وأنا مسلم أيضا ، سكت لنصف ثانية ، ثم قال ، ويهودي ومسيحي وأحب بوذا ، قلت في نفسي (خبصها الشايب ) ، وابتسمت ابتسامة عريضة ، يحسبها له وأحسبها عليه ، وقلت :   
You Have to pick one !
تبدو عليه مظاهر الانزعاج ، يتمنى لي يوما طيبا ، ويذهب .
أعود إلى الجناح ، الاستشاري العجوز ، بطــــيء ، يعرج أيضا في حديثه ، نصل بعد زمــن ، ثم نبدأ سفرا آخر ، مع مريض آخر .
في الساعة الخامسة ، يراودني شعور يشبه ذلك الشعور الذي كان يراودني في الدقائق الخمس الأخيرة من الحصة السابعة قبل سنوات ،  لكني لا أركض ، لا أرى وجه أمي ، وغداءا حارا وسفرة طعام دائرية دافئة، وجريدة الرياض ، وشاي مابعد الغداء على خط النهاية  . فأتقلد حقيبتي ، وأمشي معتدلا ، لماذا كنت مستعجلا ، أفكر ، أي العلب المجمدة في الثلاجة ستكون أدفأ عندما أسخنها .  
متعب
Ottawa
 18-July-2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق