غُــرر بي !
ظننت الحزن كائنا لطيفا ، أليفا ، يهز ذيله عندما لا يأنس منا ترحيبا ويرحل . هز ذيله ذلك اليوم ، وظننت أنه رحل . لا بد أن كائنا ما يهز ذيله كاذبا ، لأستطيع أن أقول بأنها كانت ، هزة ذيل الذئب مثلا ، كما نقول عن دموعٍ ما ، بأنها دموع التماسيح ، ذات خيانة .
ذلك الجلد الذي ظننته ميتا ، وحرصت حينما انتهيت من تقشير بعضه ، على نثره في الهواء كي لا يعود ، يتجمع من كل جهات السماء ، ليتلبسني مرة أخرى ..
خرجت ، يعضّني الحزن في قلبي ، أحاول أن أنهب الطريق بالسيارة مسرعا ، كي أهرب منه ، أغير مسار السيارة ، أهديء من سرعتي ، أجعل الإشارة تومض إلي اليمين ، وأذهب الى اليسار . لا فائدة . حتى توسطت الطريق مستسلما ، أقبل عضاته على مضض ، أصك أسناني ، وكأني أحاول أن أسحقه بينها ، أمتليء به ، يفيض ، رويدا ، رويدا ، وأنا لا حول لي ولا قوة ، حتى يصعد إلى رأسي ، وتترقرق عيناي ، يحاول أن يخرج ، وأحاول أن أحبسه ، حتى رأيت أنوار السيارات أمامي تهتز أنوار مكابحها الحمراء ، وتكبر ، وتهتز رأسيا . مر على شمس تفكيري ، ظل راحة ، وأنا أظن ان الدنيا تهتز احتراما ، ودهشة من دمعة لم تخرج من قبل ، كل شيء كان يهتز . راضيا باهتمامها ، أخذت منديلا ،ومسحت به عيني ّ فإذا الدنيا هي الدنيا ، وإذا الحزن هو الحزن ، لم أفقد منه سوى مقدار ما ينقص من كأسٍ يبلغ الماء فوهته .
ذلك الذي شُـلت أقدامه ، ونام على فراش اليأس ، يتنفس حزنه، هل نطلب منه أن يصف لنا الحادث الذي أقعده ؟ وطعم الألم الذي ذاقه ؟ ، ليس من المهم أن أناقش اسباب الحزن .كل ما في الأمر أني أسأت تقدير شجاعتي ورباطة جأشي ، فردتُ ذراعيّ أستقبل المطر ، وأستحث المطر ، وأنادي السماء ، وجاءت السماء بحبات برد غليطة ، وعواصف تقذف بي يمنة ويسرة ،وغبار يختلط بالماء ويصبح وحلاً ، وعلب كوكا كولا فارغة ..وبعضها لم تفرغ بعد .
حزني ، أستطيع التصرف معه ببراعة ، أستطيع أن أكتم أنفاسه ، أستطيع أن أفعل كل شيء لأسحقه . ولكن ماذا أفعل بحزنٍ يرتبط بي ، وجع يتفرع عني ، قريب جدا لدرجة أني أشعر بكل وخزاته ، وطعناته ، وبعيد جدا ، لا تصله يداي ، ولا تنفع معه براعتي . ليتني سقطت من شجرة لا تصلني بشيء، ربما حينها لن تلاحظ الأشجار الأخرى غيابي ، ولا ألاحظ ألمها . حينما يكون شيء يخصني ، سأنتصر إذا استطعت أن أتجاوزه وأتجاهله ، ولكنه حينما يرتبط بي ، سيمنعني العار من النظر إلى وجهي في المرآة إذا تجاهلته .
هذه مأساتي ، خلقني الله مع من أحب ، قلبا واحدا ، وعقولا كثيرة . . .
أجمع كل هذا الحزن ، في خزانة كبيرة في جانب عقلي ، لم أمانع أن تكون كبيرة ، وتأخذ الكثير من تركيزي ، وتفكيري ، ومشاعري ، حاولت أن أجعلها بعيدة عن منطقة الكلام ، وعن المنطقة التي تتحكم في عضلات الوجه ، وعن عيني ّ . لا أدري إذا كانت تطل من عيني ّ بين فترة وأخرى ، حجمها يؤهلها لذلك ، ولكنني أجيد ترتيب عقلي . أحكمت إغلاق الخزانة ، كان الوقت متأخرا جدا ، لم أستطع أن أقنع شعوب الخلايا الساكنه هناك ، بأن تنام ، لم يرضوا بأن تتطفل خزانة بهذا الحجم . كنت كل دقيقتين أعود وأتاكد بأني أحكمت إغلاقها، أو لأواسي خلية تصرخ من ألم أن تطحن الخزانة أطرافها الدقيقة وأستحلفها بالله أن تصبر ريثما أحاول أن أفرغ الخزانة . وبعد أن ظننت بأنني نمت ، كنت أتصدى بين الفينة والأخرى لحل مشاكل أولئك الذين صحوا منهم . لم ينم منهم أحد كما كان ينام . ولم أنم أنا بدوري .
في الصباح ، أنهض ، من السرير ، لا من النوم ، أغسل وجهي ، أتطلع في المرآة ، لا أرى أثرا للحروب الدائرة في رأسي . أتأكد من إغلاق الخزانة .
الدنيا في الطريق لا تهتز كثيرا ، كفاها حلقي عناء الاهتزاز ، كان يهتز في مكانة ، ينتفخ ، ويعود بألم على جدرانه ..
يستقبلني صديقي الظريف في الكرسي المجاور للكرسي الذي أثقلته بهمٍ لا يراه الآخرون ويحسه فوقه ، في غرفة الاجتماعات :
-ازيك النهارده ؟
أغمز ، وابتسم ، وأجيبه بصوت خفيض :
ميـّه ، ميه ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق